أبو العلاء المعرّي
في حفلة الذكرى الألفيّة التي أحياها لبنان للشاعر الفيلسوف 22 آذار سنة 1944
أيّها السادة
يحتفل العالم العربيّ في هذا العام بالذكرى الألفيّة لمولد ابي العلاء المعرّي.
وتقيم وزارة التربية الوطنيّة سلسلة من المحاضرات وفاقًا لبرنامج اعدّته إحياءً لذكرى من يفتخر الأدب بنتاجه العبقريّ، وتعتزّ الفلسفة بما ولّد فكره العجيب الخصيب، من شعر تسبغ عليه الحكمة ثوبًا رائعًا تسير به الركبان، ونثر يفتح للعقل آفاقًا من التفكير على تعاقب الأجيال.
في مثل هذه الأيّام من السنة الهجريّة الثالثة والستّين بعد الثلاثمائة (363) ولد احمد بن عبدالله بن سليمان في معرّة النعمان من بلاد الشام وأعمال حلب، في أسرة عريقة ينتهي نسبها إلى قضاعة وإلى قحطان، وما أن اتّصل بالحياة حتّى انتابه مرض ذهب ببصره فأصبح أعمى غير أنّ هذه الظلمة التي تحجب عن عينيه نور الأرض لم تحل دون إشراق قلبه بأنوار علويّة كانت له بصيرة وهدى وكانت به هديًا وهداية.
ومهما اختلفت في أبي العلاء المذاهب، وتشعّبت في عقائده الآراء، من الإلحاد إلى الإيمان، وما بينهما من شكّ وارتياب وسخرية في عقائده وعقائد الآخرين وحملاته على الرياء وما شاع في عصره المضطرب من فوضى الأخلاق والمجتمع، فإنّ المعرّي من أعظم المفكّرين وأكتب الناثرين وأبلغ الشعراء وأحكم الفلاسفة.
لقد دالت منذ ولادته دول، وزالت. ودولة أدبه شعرًا ونثرًا حيّة باقية، راسخة في العقول، متمكّنة من النفوس، لأنّها دولة تتحدّى الفناء وتخلد خلود الحياة.
إنّني إذ افتتح هذا المهرجان الأدبيّ احتفاءً بالذكرى الألفيّة لمولد الفيلسوف الشاعر، ليسرّني أن يكون لبنان السبّاق إلى القيام بهذا الواجب، شأنه في خدمة اللغة العربيّة وحمل لواء آدابها في الشرق والغرب على حدّ سواء.
ويلذّ لي خصوصًا أن يكون لبنان قد سبق سواه في إذاعة آثار شاعرنا الفيلسوف. فأنتم تعلمون ولا شكّ أنّ الطبعة الأولى لديوانه المعروف بـ"سقط الزند" نشرها في بيروت مع "ضوء السقط" المعلّم شاكر شقير سنة 1884 أي قبل طبعته المصريّة بسبع عشرة سنة.
وهنا في بيروت أيضًا ظهرت أولى طبعات رسائل المعرّي. وهي الطبعة التي شرحها المعلّم شاهين عطيّه ووقف على نشرها الشيخ أحمد عبّاس اللبنانيّان سنة 1894 أي قبل طبعه المستشرق موغليوث بأربع سنوات.
معلوم أنّ الطبعة الأولى من "رسالة الغفران" كانت قد ظهرت في مصر؛ غير أنّ ذلك كان بهمّة لبناني آخر هو الشيخ ابراهيم اليازجي الذي وقف على القسم الأول منها. ثمّ عاجلته المنون قبل إتمام ذلك العمل.
وقد أتيح للبنان كذلك أن يعرّف شعر أبي العلاء إلى العالم الغربيّ في العصور الحديثة. فنشر أمين الريحاني في نيويورك منذ السنة 1903 منتخبات من "اللزوميّات" نقلها إلى اللغة الإنكليزيّة. وكان ذلك قبل محاولة المستشرق "سلمون" في تعريف نتاج الشاعر الفيلسوف إلى الغرب باللغة الفرنسيّة بسنة واحدة، وقبل نقل اللزوميّات إلى التركيّة بأربع سنوات أيضًا. فإذا بادر لبنان إلى تكريم ذكرى أبي العلاء فإنّما يجري على طريقته في السبق والتنبّه إلى إحياء التراث الثقافيّ العربيّ، مضيفًا هذه الحلقة الجديدة إلى سلسلة لا يريد لها تفكّكًا أو انفصامًا.
يتساءل البعض كيف يمكن أن يجتمع في إنسان واحد الشعر والفلسفة؟ وكيف يوفّق بين هذين النقيضين؟ فالفلسفة تمتّ إلى العقل والشعر ينتسب إلى القلب والشعور. فكيف يتلاقى الضدّان فتكون الفلسفة أداة للشاعريّة ويكون الشعر وجهًا للفلسفة؟
وما من جواب أبلغ في إقناع المتسائلين من تصفّح ما جادت به قريحة أبي العلاء وما صاغته عبقريّته من درر وحِكَم في أسلوبه الشعريّ. فإذا فعلنا رأينا أنّ صيغة الشعر لا تنفر من الفلسفة. وأنّ الأفكار الفلسفيّة والحكميّة تكتسب بهجة ورونقًا إذا ما وقعت على وتر الأوزان وتحدّرت من العقل إلى الشعور.
وأقلّ ما يقال بالإيجاز في صاحب هذا العيد الألفيّ أنّه ناضجة من تلك الدوحة الشعريّة الحكميّة التي تأصّلت جذورها في زفرات طرفة بن العبد وحِكَم زهير بن أبي سلمى. وبسقت غصونها مع غمزات بشار وآراء صالح بن عبد القدّوس. وتنوّعت أزهارها في روميّات أبي فراس الحمدانيّ وفخريّات المتنبّي، حتّى أينعت ثمارها في لزوميّات أبي العلاء.
وشاعرنا إنّما يتناول فيها من ناحية التشاؤم الساخرة مشاكل الحياة ومظاهر الطبيعة، وصلة كلّ ذلك بما وراء الطبيعة، فيخطئ في أحكامه أحيانًا، وقد يتطاول بخياله الرحيب إلى ما لا يصل إليه القياس المنطقيّ، ولكنّه يبدو في كلّ حال أتمّ مظهرًا لذلك التقليد العربيّ الجاري منذ عهد الجاهليّة في الجمع بين الحكمة والشعر، والواقع والخيال، فيستحقّ ولا شك لقب شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء.
وما ضرّ أعمى المعرّة أن انطفأت شعلة النور في بصره ما دام ذلك يزيد بصيرته حدّة وضياء وعبقريّته سموًّا ومضاء. فهدى الناس إلى صراط طويل المدى، ووسّع آفاق الفكر في سعيه للوصول إلى حقيقة الوجود بين شكّ يضني وإيمان ينعش.
وما أصدق ما قاله شاعرنا اللبناني خليل مطران في رثاء محمود باشا سامي البارودي الذي غشيت عينيه هو أيضًا ظلمة حجبت عنهما النور، إذ نردّده في هذا المقام وبهذه المناسبة:
إذا وســع الكون فكر امرئٍ فلا بأس بالطرف أن يحسـرا
على الشمس أن تهدي المبصرين وليس على الشمس أن تبصرا
(يراجع مذكرات الرئيس بشارة الخوري، مجموعة خطب أيلول 1943 _ كانون الأوّل 1951، الدار اللبنانيّة للنشر الجامعيّ 1983 ص 281)