المواطنة انتماء وممارسة
المواطنة
انتماء وممارسة
قد تبدو "المواطنة"٬ للوهلة الأولى٬ مفهومًا بسيطًا غير معقّد. إلاّ أن المواطنة٬ في الواقع المعاش٬ أمر معقّد٬ ولا سيّما في بلد كلبنان٬ متعدّد الأديان والطوائف والمذاهب٬ وذي نظام طائفيّ. فالمواطنة٬ في تحديدها المجرّد والبسيط٬ هي انتماء أفراد شعب محدّد في رقعة جغرافيّة إلى وطن واحد لجميع أبنائه. وبالتالي ينتظم هذا الشعب٬ ضمن حدود وطنه٬ في منظومة واحدة من دستور وقوانين ومؤسّسات وحقوق وواجبات.
الاّ أنّ المواطنة تصبح أكثر تعقيدًا حين ننظر إليها من زاوية "الهويّة" و"الانتماء" و"الولاء". وكلّ من هذه السمات الثلاث تفرض مسلكيّات معيّنة طبقًا لمضمونها.
ثــمّة صعوبات عدّة٬ لا بل أخطار٬ في تحديد الهويّة ( وبالتالي الانتماء و الولاء) ٬ ومن أهمّها:
1 _ صعوبة٬ لا بل خطورة٬ تحديد الهويّة انطلاقًا من الانتماء الدينيّ والطائفيّ في معزل عن سائر المقوّمات.
2 _ خطورة اعتبار الهويّة "جوهرًا " قائمًا بذاته٬ ثابتًا غير متحوّل٬ محدّد المقاسات والمعالم. فالهويّة يجب أن يُنظر إليها٬ وفي كلّ أبعادها٬ من منظور تعدّديّ وتطوريّ وجدليّ.
3 _ خطورة التبسيط والتحويل والاختزال في رسم الهويّة ابتغاء للوصول إلى يقين ثابت وهروبًا من مواجهة الأمور المعقّدة٬ أو رصًّا للصفوف٬ أو خروجًا من الإحباط٬ وغير ذلك...
4 _ خطورة الإخفاق٬ في مسألة العلاقة ما بين الهويّة والانتماء الطائفيّ٬ في إدارة "التوتّرات" التي يفرضها الواقع ما بين قطبين أو مستويين. وبالتالي حسم تلك التوتّرات بالانحياز الكامل إلى قطب واحد.
من تلك التوتّرات:
_ أن يعيش المتديّن المؤمن البعد الطائفيّ مغفلاً البعد الايماني٬ أي أن يعيش بالكلية انتماءه الطائفيّ/ السوسيولوجي على حساب انتمائه الايمانيّ الروحيّ٬ فينزوي ويتطيّف ويتعصبّ. أو بالعكس٬ يعيش ايمانًا طوباويًّا وفردانيّة غير متجسّدة في الزمان والمكان٬ فيهجر جماعته أو طائفته.
_ أن يعيش المتديّن المؤمن في خانة "الأقليّة" منمّيًا فيه مخاوف متوهّمة٬ واقعًا في "عصاب" الأقليّة٬ أو ذائبًا كلّيًّا في ايديولوجيا "الأكثريّة" المهيمنة فيخسر خصوصيّته وفرادته٬ أو أن يعيش في خانة "الأكثريّة" فلا يحسب حسابًا للآخرين ويقع في تجربة الهيمنة والتسلّط.
_ إنّ التفكير في المواطنة كما ذكرنا مرتبط ارتباطًا مباشرًا بمسألتي "الهويّة" و"الانتماء". ومسألتا الهويّة والانتماء مرتبطتان٬ لا سيّما في لبنان٬ بمسألة "الطائفيّة". إنّ النظام الطائفيّ في لبنان له مقاربات عدّة لا مجال هنا للحديث عنها بالتفاصيل. إنـّما٬ لا بدّ٬ في الحديث عن المواطنة٬ من أن نتوقّف بعض الشيء عند علاقة الطائفيّة بالانتماء والولاء. فصحيح أنّ اللبنانيّ عليه٬ وفق قوانين الأحوال الشخصيّة٬ أن ينتمي قسرًا إلى طائفة. ألاّ أنّ هذا الانتماء يندرج في سياق تعدّد انتماءات الفرد إلى عائلة ومكان وسكن ومجال دراسيّ وجمعيّات وأحزاب ونقابات وتيارات فكريّة واجتماعيّة...وتتدرّج تلك الانتماءات وفق جدول أولويّات يختلف باختلاف الحالات والظروف. وقد تكون تلك الانتماءات متناغمة أو متعارضة أو في تنافس٬ فيعمل الفرد على التوفيق بينها.
أمّا الولاء فهو أقلّ قسريّة من الانتماء ولكنّه أدهى. فهو قد يتطابق مع بعض الانتماءات الاجتماعيّة٬ أو يتخطّاها ليدخل في سياق ارتباط وتبعيّة وحماية يمكن أن تؤدّي الى " الزبائنيّة ". ويحكى كثيرًا اليوم عن الطائفيّة ومساوئها وقلّما يحكى عن الزبائنيّة الآخذة في الانتشار والتي تتخطّى أحيانًا كثيرة الانتماء الطائفيّ والولاء له٬ ولا قيم تردعها بل تفتّش دائمًا عن المصلحة الخاصّة.
من هنا٬ أصبح من الضروريّ على اللبنانيّين كافة٬ كي تستقيم أوضاع بلدهم٬ وكي يعمّقوا عيشهم المشترك٬ أن يبنوا وحدتهم الوطنيّة على الولاء للوطن أوّلًا. والولاء للوطن أوّلًا لا يعني تنكّراً لولائهم ولدينهم أو طائفتهم. فالمواطنة من جهة، هي القيمة المشتركة أو الجامعة ولا تتعارض٬ من جهة أخرى _ أو يجب ألا تتعارض _ مع الانتماء إلى طوائف. وتشتدّ الحاجة إلى إنماء روح المواطنة وإلى اكتساب ثقافتها٬ خصوصًا في المجتمعات المتعدّدة الأديان والمذاهب كلبنان. كما أنّ روح المواطنة تصبح ضرورة قصوى عندما يتعلّق الأمر بترسيخ الديمقراطيّة ودفع عجلة التنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة٬ وايجاد مناعة لدى المواطنين تحميهم من الصراعات الداخليّة والخارجيّة التي تستخدم المشاعر الدينيّة وقودًا لإشعال الفتنة الأهليّة.
فالانتماء بالمواطنة٬ كإنتماء أوّليّ وأساسيّ٬ يستتبع ولاء كاملاً للوطن يسهّل تحقيق الديمقراطيّة التي هي مشاركة في الحكم٬ وعدالة٬ على أساس القوانين الملزمة للجميع٬ وعلى أساس مساواة الجميع دونما تمييز عرقيّ أو دينيّ أو طائفيّ أو مذهبيّ أو عشائريّ ...كما أنّ روح المواطنة تحمل الناس إلى المشاركة في خطط التنمية حيث أنّ السلطة المركزيّة لا تستطيع وحدها أن تقوم بهذه الخطط وتنتج فيها من دون مشاركة المواطنين.
من هنا نأتي إلى الحديث عن القيم الاجتماعيّة والقيم المدنيّة التي تتأسّس عليها المواطنة الصالحة. إنّ تنظيم الحياة المشتركة يخضع إلى قيم اجتماعيّة وقيم مدنيّة. الأولى تمثّل النطاق الأخلاقيّ٬ وهو حالة مثاليّة يقيس بها الأفراد والجماعات تصرّفاتهم. والقيم المدنيّة تمثّل النطاق القانونيّ٬ وهو أساس دولة القانون المبنيّة على الحريّة والواجبات والحقوق.
القيم الاجتماعيّة التي تتأسّس عليها روح المواطنة عديدة٬ وأهمها:
- المساواة: تعبّر عنها المادّة الأولى من الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان بالتالي" "يولد كل الناس احرارًا متساوين في الكرامة و الحقوق..." وتعبّر عنها المادّة السابعة من الدستور اللبنانيّ بالتالي :"كلّ اللبنانيّين سواء لدى القانون وهم يتمتّعون بالسواء بالحقوق المدنيّة ويتحمّلون الفرائض والواجبات العامة دونما فرق بينهم."
- المشاركة: الإنسان يحتاج إلى أخيه الإنسان. وبالتالي٬ لا يمكن ولا يجوز أن ينعزل أيّ إنسان عن مجتمعه٬ كما انه لا يمكن لشخص واحد مهما علا شأنه أن يحقّق مصلحة المجتمع٬ أنما يلزم لذلك مشاركة الجميع وتضافر جهودهم.
- التضامن: هو قيمة لا يقوم مجتمع من دونها. والتضامن مطلوب في السرّاء والضرّاء على السواء.
أمّا القيم المدنيّة التي تؤسّس لدولة القانون فأهمّها:
1_ احترام القانون: يساهم في تنظيم العلاقات بين الناس والسلطة٬ ويحفظ حقوق الجميع٬ ويؤمّن المصلحة العامّة.
2_ احترام الملكيّة: فمن أكثر أشكال عدم احترام القانون شيوعًا٬ الاعتداء على ملكيّة الآخرين بكلّ أشكالها٬ الماديّة والأدبيّة والفنيّة وغيرها.
3_ المشاركة السياسيّة والنقابيّة والأهليّة: وتتحقّق تلك المشاركة عبر الانتساب إلى حزب أو تنظيم سياسيّ٬ يخفّف من فرز الناس في خيارات الشأن العام٬ على أساس الانتماء الطائفيّ. كذلك تتحقّق أيضًا عبر الانتساب إلى نقابات مهنيّة تناضل في سبيل تأمين العدالة الاجتماعيّة. كما تتحقّق أخيرًا عبر انتساب المواطن٬ وفي شكل طوعيّ٬ إلى هيئات أهليّة تعرف بالمنظّمات غير الحكوميّة مثل الأندية الثقافيّة والجمعيّات الإنسانيّة وغيرها.
وهنا لا بدّ من لفت الأنظار إلى ضرورة مشاركة الشبيبة في المنظّمات الشبابيّة. فلهذا الأمر أهميّة خاصّة كون الشبيبة هي التي تبنى المستقبل. كذلك لا بدّ من لفت النظر أيضًا الى ضرورة العمل الشبابيّ التطوّعيّ الذي هو بمثابة مدرسة في الحياة٬ لأنّه ينمّي خصالًا مهمّة عند الشباب٬ منها : روح التعاون٬ حبّ العطاء٬ الحسّ الانسانيّ٬ والحسّ الوطنيّ ... .
إنّ لبنان قائم على المشاركة وعلى الميثاقيّة. ذلك يعني أنّه لا يمكن أن تُبنى وحدة وطنيّة من دون مشاركة اللبنانيّين كافّة. ومن دون الوحدة الوطنيّة لن يقوم سلم في لبنان ولا تقدّم ولا ازدهار ولا تنمية. وميثاقيّة المواطنة هي أكبر ضمانة لبقاء لبنان وازدهاره٬ وخير لكل أبنائه.
(مشروع الاعلام والشباب، مهنيّة ومسؤوليّة، الدليل إلى المفاهيم العصريّة للحكم الصالح، صفحة 17)