ملحم بركات الموسيقار
الموسيقار ملحم بركات
أنعم الخالق عليه بموهبة نادرة، فتفتّحت عينيه على الفنّ والموسيقى وهو بعد في سنّ الطفولة، عزف وأبدع، لحّن وغَنَّ فجمع "أبو مجد" المجد من أطرافه وسار على دروب الفنّ الأصيل يحصد إعجاب وتقدير الملايين.
ملحم بركات من أشهر الفنّانيين والموسيقيّين العرب الذين تأثّروا بفنّ الموسيقار الكبير محمّد عبد الوهاب، هو أكبر من أن يختصر ببضع كلمات أو أسطر، وهو الموسيقار الذي في كلّ يوم يحمل الأثير أغانيه، وألحانه الرقراقة والعذبة، يبثّها في جميع أقطار المعمورة.
وُلِد ملحم بركات في بلدة كفرشيما في الخامس من نيسان عام 1944، ظهرت موهبته منذ كان في المدرسة وفي يوم من أيّام الاحتفالات المدرسيّة لحّن بعض الكلمات من الجريدة اليوميّة وغنّاها، والتحق بعد ذلك في أحد البرامج المشهورة للأصوات الجديدة واختبره روّاد الفنّ اللبنانيّ الكبار وقالوا عنه أنّه موهبة لا مثيل لها لما يمتلكه من طبقات صوت عالية، نقيّة وصافية وقويّة، والتحق بعد ذلك بالمدرسة الرحبانيّة وكانت انطلاقه كبيرة. ويؤكّد ملحم بركات بأنّ أوّل لحن وضعه كان نشيدًا لمدرسة كفرشيما.
طبع الأغنية العربيّة المعاصرة بأسلوبه اللحنيّ الإبداعيّ وأدائه الذي يجمع بين الطرب الأصيل والغناء المتجدّد. اشتهر منذ صباه كمغنّ في بلدته، حتّى طلب منه مرّة الغناء والعزف بين فصلي مسرحيّة "جنفياف" التي كانت تعرض في البلدة، فلفت انتباه الموسيقيّ حليم الروميّ، الذي أثنى على موهبته وشجّعه.
في مطلع شبابه طلب ملحم من والده أن يسمح له بدراسة الموسيقى، فكان جواب الأب:"هناك عبد الوهاب في الساحة وتريد أن تصبح فنّانًا؟" ومع ذلك ترك ملحم المدرسة وكان في السادسة عشرة من عمره وقرّر الالتحاق بالمعهد الوطنيّ للموسيقى، فانتسب إليه، دون معرفة أبيه، فكان يخبّئ كتب المعهد في كيس ورقيّ يخفيه أمام مدخل منزله، إلى أن اكتشف والده الأمر، الذي عاد وقبل الأمر نظرًا لإصرار إبنه وموهبته الواعدة. درس ملحم النظريّات الموسيقيّة والصولفاج والغناء الشرقيّ والعزف على آلة العود مدّة أربع سنوات في المعهد الوطنيّ للموسيقى (الكونسرفاتوار)، وكان من بين أساتذته، سليم الحلو وزكي ناصيف وتوفيق الباشا. وترك المعهد قبل إكمال دراسته، فنصحه فيلمون وهبي بأن يتوجّه إلى مسرح الرحابنة وهكذا كان. فقد تعرّف إلى إبن بلدته الفنّان عصام رجّي، الذي سمع عنه الكثير، فانضمّ بواسطته إلى فرقة الأخوين رحباني. لكنّه بعد أربعة أعوام، تركهما لكي يشقّ طريقه الفنيّة ويبني شخصيّته الموسيقيّة الطربيّة والتلحينيّة المتميّزة لما يمتلكه من موهبة في هذين المجالين. وعن التعامل مع الرحابنة، قال بركات: "ذات يوم قال لي فيلمون وهبي بالحرف الواحد: يا إبني انت ولد موهوب لكن مع بيت الرحابنة لن تصل إلى الشهرة، إمّا أن تكون مكان نصري شمس الدين أو أقلّ منه، ولن يتركوك تتفوّق عليه". أشار بركات إلى أنّ الرحابنة "كادوا أن يربطوني بعقد، لكنّي لم أقبل، أكملت مسرحيّة الشخص ورحلت، اتّصلوا بي عدّة مرّات فقلت لهم أنّ مستقبلي ليس عندكم، انطلقت، لو لم أفعل هذا لما انطلقت ولم يكن هناك ملحم بركات".
ويصف ملحم بركات عمله مع روميو لحّود مشبعًا بالحرّيّة بينما عمله مع الرحابنة أكسبه الخبرة في الحياة وشجّعه لأن يصبح فنّانًا.
انطلاقته: أغنية "الله كريم" التي كتبها له الراحل توفيق بركات ولحّنها له جاره الراحل فيلمون وهبي رسمت أولى بدايات ملحم الفنّيّة، إلّا إنّه لم يقتنع بأغنية واحدة وعندما طالبهما بأغنية ثانية رفضا الامتثال لرغبته، فلجأ إلى مارون نصر وقدّم له أغنية " يا اسمر" بعد أن دفع له مبلغ 32 ليرة لبنانيّة مقابل الحصول عليها. يومها طلب المبلغ من والده فوافقه رغم إنّه لم يكن يشجّعه على الغناء.
في الثانية والعشرين من عمره شقّ ملحم طريقه في مشوار فنّيّ طويل تعليمًا ولحنًا وغناء ومسرحيّات. فقد درس العزف على العود، واشترك في الغناء في فرقة الرحابنة في عدد من مسرحيّاتهم الغنائيّة وقام ببطولة مسرحيّة "الربيع السابع"، وبدأ مسيرته التلحينيّة لعدد كبير من المطربين، منهم: وديع الصافي، صباح، سميرة توفيق، ماجدة الرومي، وليد توفيق، بسكال صقر، ربيع الخولي، أحمد دوغان، ميشلين خليفة، إلخ. وكانت أولى ألحانه، "بِلْغي كلّ مواعيدي" (ثنائيّ بينه وبين جورجيت صايغ)، ثمّ ألحان مسرحيّة "حلوة كتير" للمطربة صباح، ومن بينها: "المجوّز ألله يزيدو"، و"صادفني كحيل العين"، و"ليش لهلق سهرانين".
أوّل عمل مسرحيّ قام ببطولته كان مسرحيّة "الأميرة زمرد" ومن ثمّ "الربيع السابع" مع الأخوين رحباني، وبعد ذلك مسرحيّة "ومشيت بطريقي". وخاض غمار السينما وقام ببطولة فيلم "حبي لا يموت" مع النجمة هلا عون. كما أحيا الحفلات على المسارح العربيّة والعالميّة في فرنسا، وأميركا، وأستراليا، وكندا، وقرطاج (تونس) وجرش (الأردن)، وغيرها من البلدان.
شخصيّة ملحم بركات متميّزة وفيها كلّ صفات المبدع الحقيقيّ البعيد عن التكلّف والإدّعاء، ولكنّها تجمع التناقضات أحيانًا، فهو موهوب، مثقّف، ظريف، عفويّ، طيب القلب، ولكنّه أيضًا عنيد، حاد، صلب ومزاجيّ بامتياز. تضمّنت مسيرته الكثير من الكفاح والألم والمعاناة والشغب والفوضى في الحياة والفنّ.
مرّ بمرحلة فقر وظلم وعوز أيّام الحرب. ولكنّه لما لحّن أغنية "أبوكي مين يا صبيه" للفنّان وليد توفيق، كرّت بعدها السبحة وانطلقت شهرته من جديد، فقدّم: "علواه يا ليلى"، "عود يا حبيب الروح"، "يا لايمة ليش الملام"، "على بابي واقف قمرين"، إلخ.
يعتبر الشاعر نزار فرنسيس توأم روحه، فهو كتب له معظم كلمات أغانيه. وإذا ما تطلّب الأمر تعديل بعض هذه الكلمات فهو لا يتوانى عن القيام بذلك بكلّ طيبة خاطر من أجل عينيّ ملحم، كما حصل مثلًا مع أغنية "جيت بوقتك" عندما قرّر ملحم أن تحلّ كلمة "فرفح" مكان كلمة "فرَّح"، وكان له ما أراد.
أطلق عليه المرحوم الأستاذ جورج ابراهيم الخوري، إبّان كان رئيس تحرير مجلّة الشبكة لقب "الموسيقار". ونال جوائز وأوسمة عديدة من دول ومؤسّسات وجمعيّات. ومن ذكرياته التي لا ينساها معايشته للراحل فيلمون وهبي، ابن بلدته كفرشيما، فهو رافقه كسائق خاص لاربع سنوات متتالية، فتعلّم منه تبسيط الامور. أمّا النصيحة التي كان يردّدها على مسمعه فكانت، "أن لا يتفلسف في التلحين"، فأثّر فيلمون عليه بلحنه الطربيّ ذي الطابع الشعبيّ الذي يصنّف ضمن خانة "السهل الممتنع". وكانا كلاهما يعشقان الصيد، وحياتهما ملىء بالبسمة والطرافة و"خفّة دم" ينشراها أينما وُجدا.
كان يؤلّف مع الملحّنين إيلي شويري والراحل فيليمون وهبي ثلاثيًّا معروفًا في هذا المضمار فلا يفترقون في مواسم صيد طيور "المطوق" و"الترغل" و"السمّن". وكان يحلو للثلاثة أن ينتقدوا بعضهم البعض ويروون الطرائف والنكات الخاصّة بالصيّادين أثناء قيامهم بهذه الهواية.
الموسيقار الكبير ملحم بركات هو من أهمّ الفنانين العرب المعاصرين، فهو مدرسة في التلحين والغناء، ويعتبر نموذجًا يُحتذى به في تطوير الغناء العربيّ لحنًا وأداءً، وكم من الملحّنين والمغنّين الجدد الذين يغنّون أغانيه وألحانه ويقلّدونه ويحذون حذوه. جمله الموسيقيّة مدروسة ونابعة من موهبّة خلاّقة وذوق فنّي رفيع يتماشى وصوته المتمكّن والمصقول. إنّه ليس بمكثار في ألحانه، ولكنّ كلّ لحن عنده يبدو وكأنّه أجمل ممّا سبقه ومتميّز عنه. وبما أنّه موهوب في الغناء والتلحين فإنّ أغانيه تتلاءم وصوت المطربين وكأنّه يلحّن "على صوته"، أي يختبر الألحان بصوته قبل أن يُطلقها، وعندما يلحّن لغيره يعرف ما ستكون عليه الأغنية لأنّه يُعطي لكلّ صوت ما يناسبه من الألحان والعِرب والألوان الموسيقيّة. وغالبًا ما تشكّل أغنيته الجديدة أو لحنه الجديد أغنية الموسم أو لحنه.
يُعتبر ملحم بركات مجدّدًا في الأغنية العربيّة واللبنانيّة وقيل عنه بأنّه "سابق عصره" إذ قدّم نماذج من الأغنية العربيّة الجديدة منذ ثمانينيات القرن الماضي. وهو لم يغنّ إلاّ في اللهجة اللبنانيّة، ليس لعدم اهتمامه باللهجة المصريّة أو غيرها من اللهجات العربيّة، بل قناعة ووفاء للذين صنعوا الأغنيّة اللبنانيّة وأوصلوها إلى كلّ الأقطار العربيّة والأجنبيّة، أمثال الرحابنة وفيلمون وهبة وزكي ناصيف وتوفيق الباشا ووديع الصافي وسامي الصيداوي ونقولا المنّي وغيرهم. لا يتوانى عن توجيه النقد للفنان غير الملتزم فهو حامل راية الأغنية اللبنانيّة أينما ذهب وعتبه كبير على المطربين الذين نسوا انّهم من لبنان واعتقدوا أن بلدًا آخر هو بلدهم الأوّل والأخير.
إلى جانب ذلك، حرص ملحم بركات على السعي إلى الكمال في أعماله، فكم من الأغاني التي سجّلها أكثر من مرّة في الأستوديو ولم يرض عنها ولم يُنزلها إلى الأسواق. فهو يخشى الأستوديو أو بالأحرى لا يرتاح فيه، لذلك نجد له العديد من الأغاني المدرجة في ألبوماته مأخوذة من حفلاته الحيّة وليس من تسجيلات الأستوديوهات.
من الألحان التي لاقت نجاحًا كبيرًا في الآونة الأخيرة أغنية ماجدو الرومي "اعتزلت الغرام" وأخرى لكارول صقر بعنوان " يا حبيبي تصبّح فيِّ"، مع الإشارة إلى أنّ معظم أغانيه بقيت عالقة في ذاكرة اللبنانيّين بينها "عى بابي وافق قمرين"، العذاب يا حبيبي"، "أحلى ظهور"، "حمامة بيضا" وغيرها. ويشير ملحم في غالبيّة أحاديثه الصحافيّة والمتلفزة إلى أنّ لكلّ لحن أغنية قصّة. وهو كان يحبّ التلحين في الصباح الباكر أو عندما يكون خلف مقود السيّارة أو على متن الطائرة. من الأغاني التي استوحاها من تلك الظروف "أبوك مين يا صبيّة" لوليد توفيق، "يا حلوة شعرك داريه" لغسّان صليبا، و"حمامة بيضا" التي غنّها بنفسه.
لا يحبّ ملحم بركات أن يستذكر طفولته كثيرًا. تلك الأيّام تشعره بالحنين والحزن معًا. لا ينسى مثلًا رائحة الّليمون التي كانت تفوح في كفرشيما في الربيع، كذلك صوت الفونوغراف الذي كان مختار البلدة متمسّكًا به كأنّه جوهرة نادرة تنطلق منها أصوات العمالقة فيجلس ملحم مستمعًا شغوفًا بها.
الموسيقار ملحم بركات الفنّان الحلم، والأسطورة التي ستبقى راسخة في الاذهان، حاضرة في القلوبب هو علامة مضيئة في سماء حضارة فنّيّة على صعيد التلحين والغناء ترك فيها بصمات إبداعيّة، فكان فخرًا للبنان والّلبنانيّين.
ونختم بأبيات للأديب والمؤرّخ نقلا الفتى:
غرّد بصوتِك إنّ الناسَ تزدحـــــم وزاحم البعض بعضا عندما علموا
بان من أطرب الدنيا سيطربهم وبــــــــــــــــــــــــــان مطــــربهـــــــــــــــم هـــــو الهـــــرم
غنّي فكــــلّ غنــــــاء أنـت سيّــــــــده وفيك يفتخـــــــــــــــــران، اللحن والنغم
ابتدأ الزمان بألف سيّد عصره وبمــــلحم البركات العصـــــر يختتــــــــــــم
(يراجع في ذلك: الأب يوسف طنوس، وأيضًا وجوه لبنانيّة، إعداد الصحافيّة فريال الخوري موسى، الجزء التاسع، ص 384 وأيضًا، كتاب تاريخ كفرشيما للمؤرّخ نقولا نجيب الفتى، 2007 صفحة 286)