التبويبات الأساسية

الأب يوسف الشدياق

الأب يوسف الشدياق

الأب يوسف الشدياق

هذا الراهب الأنطونيّ، ملأ اسمه البلاد كما ملأ دواوين أربعة متصرّفين هم : نعوم باشا الحلبيّ (1892-1902) ومظفّر باشا البولونيّ (1902-1907) ويوسف نصري فرنكو باشا الحلبيّ (1907-1912) وأوهانس باشا الأرمنيّ (1912-1915) ثم وصل إلى روما وعواصم أخرى.

هو "المحترم" و "المدبّر" الأب يوسف الشدياق.

ولد في حارة البطم _ حدث بيروت في 14 آب من العام 1869، دُعي يوسف منصور عبّاس أبي مروّه الشدياق٬ أمّه فتنة بنت شبل سليمان أبي مروّه٬ وهي ابنة عم زوجها.

قبل أن ينجز يوسف عامه السابع توفي والده منصور بالتيفوس٬ فتولّى أمره عمّه داود الشدياق٬ أحد وجهاء الحدث. وفي بيت عمّه تعرّف يوسف إلى وجوه كثيرة حفظ عنها الحكايات والأمثال وأخبار الحكّام والأمراء وما قيل عن المذابح والمجازر التي حدثت في الشوف بين المسيحيّن والدروز خلال فتنتي 1840 و1860.

تعلّم يوسف٬ في مدرسة "حارة البطم"٬ اللغة العربيّة والخطّ٬ على يد الأستاذ شاهين بلاّن٬ والد سليم بك بلاّن. وفيها تميّز يوسف عن سواه بالهدوء والإصغاء التام٬ اللذين سهّلا عليه الاستيعاب٬ حدا ذلك العم داود أن يرسله الى مدرسة "مار لويس-المزار" في بلدة غزير٬ حيث بقي ثلاث سنوات ليخرج متأثّراً بالقديس الإيطاليّ لويس غونزاغا٬ شفيع الشبيبة٬ فكان أن عزم٬ على دخول الرهبنة٬ لكي يعود٬ فيما بعد٬ الى مسقط رأسه٬ كاهنًا يخدم بلدته والمنطقة التي كانت تفتقر حتّى ذلك الوقت الى مدرسة حديثة.

وعندما قرّر يوسف الشدياق السير على طريق القدّيسين٬ اتّخذ من القديس أنطونيوس الكبير٬ كوكب البرّيـّة٬ مثله الأعلى. فالتحق بالرهبنة الأنطونيّة وهو بعمر 16سنة.

توشّح يوسف بثوب الابتداء في دير القلعة _ بيت مري لسنة واحدة لا غير٬ وكان معلّمه الأب طوبيّا أبي زيد. ثمّ لبس الإسكيم الملائكيّ في 6 تشرين الأوّل من العام 1884 أحد تذكار الورديّة المقدّسة. ومن هناك أرسلته الرهبنة إلى مدرسة قرنة شهوان الشهيرة في عصرها والتي تجرَّج فيها نخبة من الكهنة الموارنة٬ الذين خدموا الطائفة خدمات جلّى. وكان أستاذه في اللغة العربيّة الخوري نعمة الله داغر من بكفيا٬ وأستاذ الفرنسيّة٬ نجيب الداي.

ولما أتمّ يوسف دروسه في قرنة شهوان بنجاح لفت نظر رؤسائه وأساتذته٬ أدخلته الرهبنة مدرسة الحكمة أشهر المدارس اللبنانيّة آنذاك. فتعمّق في الآداب العربيّة وفي المنطق على يد الشيخ عبدالله البستاني الكبير وفي الفرنسيّة على يد الأمير ملحم شهاب من كفرشيما.

بعد مرور خمس سنوات على دخوله الرهبنة٬ استحقّ يوسف بركة سيادة المطران يوسف مسعد٬ ورسم كاهنًا في 3 أيّار من العام 1889 في كنيسة بكركي وكان عمره20 عامًا فقط.

بدأ الأب يوسف الشدياق حياته الكهنوتيّة في ميتم مار يوسف _ بيروت٬ حيث خدم راهبات المحبّة مدّة سنة واحدة. ولما طلب إلى القدس٬ ليكون مديرًا لمدارس الفرنسيسكان٬ رفضت الرهبنة أن ترسله إلى هناك ورفض هو أيضًا ذلك٬ لأنّه كان يطمح في أن يرجع إلى بعبدا حيث الحاجة كانت ماسَّة الى كاهن نشيط. وبطلب من المطران يوسف الدبس٬ عيّنه الرئيس العام للرهبنة الأنطونيّة الأباتي سمعان بلّوني مديرًا لمدرسة رعيّة بعبدا٬ فبقي فيها من 1891 الى 1893، وأظهر براعة٬ في الإدارة٬ وأمانة لرسالته٬ وإخلاصًا لتلامذته٬ ومودّة للأساتذة الذين عاونوه. إلّا أنّ المدبّر عمّانوئيل البعبداتيّ ارتأى أن يتسلّم الأب الشدياق إدارة مدرسة الرهبنة في مار اشعيا٬ فكان له ما أراد٬ وتولّى الأب يوسف إدارة هذه المدرسة من العام 1893 الى العام 1901، نال خلالها٬ إعجاب رؤسائه وزملائه المعلّمين٬ ومحبّة طلاّبه الذين تعلّقوا به.

وعندما انتخب المدبّر عمّانوئيل البعبداتيّ رئيسًا عامًّا٬ عُيّن الأب يوسف أمينًا للسرّ العام٬ فاضطرّ أن يبقى في المسؤليّة٬ يدير مدرسة مار اشعيا إلى أن انتهت السنة الدراسيّة٬ ليذهب رئيسًا لدير مار بطرس وبولس في قطّين٬ قضاء جزين٬ حيث مكث حتّى أواخر عام 1902.

كان الأب يوسف في العقد الرابع٬ وكان ممتلئًا حيويّة ونشاطًا. انتخب مدبّراً عام 1904 ٬ وبقي يخطّط ويدرس كيفيّة تنفيذ مشاريع عديدة كانت تجول في خاطره. وفي عام 1905 ساعد في إصلاح دير مار انطونيوس _ الحدث بعبدا وفي حفر الناعورة الشهيرة بخراج حارة البطم٬ ونقّب الأرض في اسفلها وسمّي "الكوع" المؤدّي الى الحدث باسمه٬ فعرف بكوع المدبّر.

في عام 1906 بدأ ببناء مدرسة مار يوسف في بعبدا عام 1911 اشترى مطبعة بمساعدة الآباتي لويس عبيد٬ ونال امتيازاً لمجلة كوكب البريّة. وفي العام نفسه٬ جرّ مياه عين الدلبة الى الساحل٬ واشترى جميع الأملاك الخاصة بالنبع.

ومن العام 1920 الى آخر حياته ظلّ في دير مار انطونيوس _ الحدث بعبدا.

عرفه المؤرّخ المرحوم يوسف ابراهيم يزبك عن كثب فقال فيه: "احترمه الوجهاء والضعفاء٬ آمن به المحتاجون مصلحًا ورائدًا. فكان احترام عارفه له يغطّي على اسمه٬ اذ بات يُعرف ب"المحترم" ٬ وفي بعبدا كما في الجنوب وبيروت٬ وهو٬ عند رؤسائه واخوانه الرهبان٬ الكريم العقل والقلب واليدّ. فمتى قيل :"ذهب المحترم" أو قيل "أمر المحترم"٬ عرف السامع أن الذاهب والآمر إنما هو الأب الشدياق. وكان يتبادر هو٬ الى الذهن مع هذا النعت في حين أن معه في الدير محترمين آخرين. ولعلّ وقاره٬ ورُجولته٬ وطيبته٬ وأريحيّته٬ ووطنيّته٬ هي السحايا الفذَّة التي فرضت أن يكون "المحترم" بين المــُحترمين٬ وأن يحصر النعت به".

ترك الأب المدّبر يوسف الشدياق الى جانب المدرسة والمجلّة٬ أثراً أدبيًّا غلب عليه الطابع السياسيّ والوطنيّ٬ فلم تشغله المشاريع الكثيرة عن الأدب والمطالعة والبحث.

ففي دير مار اشعيا كتب "الشاب التائه" و"مار اشعيا". ومن بعبدا٬ سطّر مقالات سياسيّة وأدبيّة نشرها في مجلّة "الراصد"٬ بين العام 1930 و1933، وفي مجلة "العاصفة" تحت اسم "شاهد عيان". ثم أنه عرّب عن اللغة الفرنسيّة حياة مؤسِّسة راهبات الراعي الصالح٬ ونقّح بعض الكتُب خصوصًا كتاب "الصادق في خدمة الحقائق" للآباتي عمانوئيل البعبداتيّ الأنطونيّ. ووضع أيضًا كتاب "عرف العرفان في مديح السلوان"٬ جَمع فيه بعض شوارد التهاني عربيًّا وسريانيًّا وفرنسيًّا من منظوم ومنثور بمناسبة تقليد الوسام المجيديّ الثاني للمطران نعمة الله سلوان رئيس اساقفة أبرشيّة قبرص المارونيّة.

كذلك ترك مخطوطات في تاريخ العيال اللبنانيّة وموضوعات مختلفة.

عاش الأب يوسف الشدياق حياته الرهبانيّة تقيًّا أمينًا مخلصًا شجاعًا صبورًا٬ وحمل الرسالة الأنطونيّة في قلبه وعقله الى آخر نسمة من حياته٬ فتوفّي برائحة القداسة في 9 أيار من العام 1941، ودفن في دير مار انطونيوس _ بعبدا.

(يراجع كتاب :دير مار أنطونيوس الكبير بعبدا٬ تاريخ وصلوات للأب مارون الحايك الأنطونّي  1993 ص 91 الى 97)

editor1

وُلد المحامي جوزف أنطوان وانيس في بلدة الحدث قضاء بعبدا _ محافظة جبل لبنان _ عام 1978، وتربّى منذ طفولته على حُبّ الوطن والتضحية من أجل حريّة وسيادة واستقلال لبنان. درس الحقوق في الجامعة اللبنانية _ كلّيّة الحقوق والعلوم السياسيّة _ الفرع الثاني، وتخرج فيها حاملًا إجازة جامعيّة عام 2001، وحاز في العام 2004 دبلوم دراسات عُليا في القانون الخاصّ من جامعة الحِكمة _ بيروت. محامٍ بالاستئناف، مُنتسب إلى نقابة المحامين في بيروت، ومشارك في عدد لا يُستهان به من المؤتمرات والندوات الثقافيّة والحقوقيّة اللبنانيّة والدوليّة والمحاضرات التي تُعنى بحقوق الإنسان.

Related Posts
Comments ( 0 )
Add Comment