التبويبات الأساسية

الأخوان فليفل أخمدا نارَ الاشتياقِ إلى النّشيد

طيبِ نفسٍ ولاحظاها بالعناية، فالموسيقى نزهةٌ فوقَ صهوةٍ ورقصةُ سيفٍ في امتدادِ الفرح، أو هي مصنعٌ لفنٍّ يرتبطُ بمصيرِ الإنسانِ الأزليّ. وفيما تَنضبُ منابعُ الابتكارِ ولا يَهدِرُ جَريُها إلّا بخَفر، فتحَ الأخوَان فليفل لوازمَ الألحانِ لتدخلَ معهما الموسيقى، كما هي، في مجالِ الحضاراتِ السّماعيّة.

       لقد أخمدَ الأخوان نارَ الاشتياقِ إلى النشيدِ عندما ألهبا أنفاسَه، وقد اتّصل بهما خبرُهُ فلم يَجهلا مواقعَ النعَمِ فيه. والغيرةُ على النشيدِ فطريّة، لكنّ الاستهداءَ إليه لم يكن من الكثرةِ بحيثُ يجدُهُ الراغبُ أنّى شاء، وإنّما كان مِمّا يَدّخرُهُ المـُترفونَ بالموهبة. أما استهداءُ الأخوين فليفل فهو حالُ الدواةِ معَ المداد، وحالُ الإفهامِ معَ الأقلام، ما استماحا خزائنَه ليكونَ في غَلّتِهما ظَمأ، فقد أعطيا النشيدَ ما يستوجبُهُ مقامُهُ من جهدٍ ووقت. وإذا كانَ بعضُ النشيدِ يَعسُرُ الافتنانُ في تلوينِهِ عندَ مَن حُرِسَت بصيرتُهُ الإبداعيّةُ وتَقَوّضَ عندَه مجلسُ الإلهام، فقد أضرمَ الإبداعُ محاسنَ النشيدِ في الأخوين فَرَصّعا بها يواقيت الموسيقى.

       تتوجّهُ موسيقى الأخوينِ إلى الإحساس، وقد حوفظَ على أشكالِه بأمانة، وهي ميزةٌ تطبَعُ بعمقٍ تآليفَهما. والإحساسُ معهما مُتَّشِحٌ بإزارِ الوطن، وكأنّ " الفخرَ بلادِنا" تهيّأَ في جُبلتِها حبًّا غير شَحيح، والحبّ إذا ما اعترى القلبَ فليسَ يزول. والوطنيّةُ في خطابهما اللّحنيِّ لا يَتعبُ معها حسُّ الحماسةِ والثورة، كالسيفِ الذي لم يتعبُ له كفُّ ضارِب، والحماسةُ مشكولةٌ على خصرِ كلّ جملة، ففي كلِّ جملةٍ من أنفاسِ الحماسةِ نفَس، ومن مَخالِبها مِخلَب. وللحماسةِ سلطانٌ أفعلُ من السحر، فإنّ تردادَ الأناشيدِ الحماسيّة يُؤجّجُ الوعيَ الوطنيَ أكثرَ من ألفِ محاضرة، من هنا ينبغي تكليفُ أناشيدِ فليفل مَهمَّة تدريسِ التربيةِ الوطنيّةِ في الأجيال، لِيَثبُتَ عندها مفهومُ الانتماء، ولِتَننتَميَ كلُّها إلى ذِريّةِ الولاء.

       هنالك طولُ عِشرةٍ بينَ الأخوين والإتّقان، أتى ذلك في وِفاقٍ بين الكلامِ والغناء، وبين الشعرِ والنغمة، فهما لا يُدخلانِ اللّحنَ إلّا لِدَعمِ الكلمةِ وتوضيحِها وتسجيلِها. وكأنّهما يقصدانِ إلى استطابةٍ بين رُكنَي الإنشاد، فلا يُحمِّلانِ واحدهما أثقال الآخر، لذلك هما دومًا في إلفةٍ لا يشوبُها تَنافرٌ أو شِقاق. فلباسُ النَّغمةِ على قياسِ جسدِ الكلمة، ومن دونِ التشاغلِ بالتطويلِ أو العَجَلة، فالأهميّةُ للوَقع. من هنا، فالطبعيّةُ معهما أفتنُ من التَزويق، والمألوف أخصبُ منَ الصناعة، والسهل أفعلُ من المــُعقّد.

       أناشيدُ الأخوين فليفل تُحفاتٌ بهيّةٌ كالعلامةِ تَقرعُ بابَ الزمن. وخلفَهُ أسوأُ ما اقترفَتْهُ الحروبُ والانتداباتُ التي حَرَمتْ بلادَنا حَلوى العَيش. في ظلِّ ذلك الزمانِ حيثُ اشتدَّتِ المـَكارِه، كان اقتحامُ الأخوين ميدانَ الأناشيدِ الثوريّة، كنشيدِ "موطني" الذي التصقَ به الخلود، كالجودِ الذي يأتي من حيثُ لا يُرتَقب، وفي الشدّةِ كَحَلٍّ نرى به ما لا نراهُ بالنعمة. لم يكنِ الأخوان بمعزلٍ عنِ التأثّرِ بالمارشاتِ العسكريّةِ التي سادت في العصرِ، عثمانيّةً أو فرنسيّة، وكانا يحلُمان بتأسيسِ فرقةٍ تنادي الفرحَ في الطُّرقاتِ وتزرعُ الوطنَ في النفوس. ولم يتبدَّدِ الحُلْمُ إذ صمدَت قوةُ قلب صاحبَيه على ما يَنويانِه، فصافحَتْ يُمناهُما الوطنَ "بفرقةِ موسيقى الأفراحِ الوطنيّةِ" التي جابتِ الناسَ فجابَتْ إليهم الأملَ، وشدَّتْ في قلوبِهم عصبَ الأرض.

       السُّبحةُ التأليفيّةُ مع فليفل كرّتْ لتَشغَفَ بأناشيدِ الأطفالِ والتي لطالما كانت مُهَمّشة، فاشتغلاها بعذوبةٍ ورشاقةِ وإيقاعاتٍ سَلِسَة، لأنّهما اعتبراها رُكنًا أساسيًّا من أركانِ الموسيقى الشعبيّة، وأبسطَ لغةٍ وجدانيّةٍ عرفَها الإنسان. وهي تساهمُ عند الأطفالِ خصوصًا في صناعةِ أُسسِ ذاتِهم الوطنيّة، كونَها مُلتصِقةً بأكثرِ مراحلِ النموِّ حَراجةً في رسمِ الشخصيّة. وأكثرُ من ذلك، فقد رأى الأخوان في أغنيةِ الأطفالِ نواةً أساسيّةً لمجتمعِ الكبار، إذ تُشَكِّلُ البدايةَ لزرعِ حبِّ الوطنِ والتآخي، ولترسيخِ المهاراتِ والقيَمِ، ولشَبكِ المعارفِ والأصولِ في نفوسٍ لن تُضَيِّعَ في المستقبلِ نُسختَها، "فنحنُ الشبابُ لنا الغدُ".

       الأخوان فليفل من حَظايا الوطنِ والأمّة، يَصلُحُ أن تُوظَّفَ مآثرُهما، لـــِما فيها من القِيَمِ والدلالات، في مناهجِ التوجيهِ الوطنيّ. ويَكفينا بهما فخرًا أنّهما، وبالإضافةِ إلى تكوينِهما تاريخًا فريدًا في النشاطِ الموسيقيِّ الشرقيِّ أغانيَ وأناشيد، قد اكتشفا تُحفةً نادرةً تبنّياها موسيقيًّا، هي صَبيّةٌ جاوَرَنا القمرُ كرمى لها، فيروز.

( يراجع كتاب للدكتور جورج شبلي تحت عنوان " مبدعون من لبنان" منشورات دار صادر بيروت 2016 ص 162)       

 

 

 

ADMIN

وُلد المحامي جوزف أنطوان وانيس في بلدة الحدث قضاء بعبدا _ محافظة جبل لبنان _ عام 1978، وتربّى منذ طفولته على حُبّ الوطن والتضحية من أجل حريّة وسيادة واستقلال لبنان. درس الحقوق في الجامعة اللبنانية _ كلّيّة الحقوق والعلوم السياسيّة _ الفرع الثاني، وتخرج فيها حاملًا إجازة جامعيّة عام 2001، وحاز في العام 2004 دبلوم دراسات عُليا في القانون الخاصّ من جامعة الحِكمة _ بيروت. محامٍ بالاستئناف، مُنتسب إلى نقابة المحامين في بيروت، ومشارك في عدد لا يُستهان به من المؤتمرات والندوات الثقافيّة والحقوقيّة اللبنانيّة والدوليّة والمحاضرات التي تُعنى بحقوق الإنسان.

Related Posts
Comments ( 0 )
Add Comment