التبويبات الأساسية

كلمة نقيبة المحامين الأستاذة أمل حدّاد في حفل إطلاق يوم المحامي

كلمة نقيبة المحامين الأستاذة أمل حدّاد في حفل إطلاق يوم المحامي

(Mirabeau)، وردَّ روبسبيار (Robespierre)، وانفجرت الجمعيّة العموميّة الفرنسيّة تمرُّدًا وعصيانًا!

       وعندما طغى نابوليون (Napoléon) كان له المحامون بالمرصاد: يستشيطُ غضبًا كلّما ذُكِروا، يُلغي نقاباتهم، ويُفصح عمّا يُضمر لهم، بقوله: " هؤلاء المحامون منازلهم السجون وجُهنَّم. إنّني أمقُتُهم مَقتًا شديدًا ".

       إلاّ أنّنا نقرأ في تشريعات يوستينيانوس (Justinien) تقريظًا للمحامين الذين شرَّفوا المنبر الرومانيّ، بقوله: "اثنان يذودان عن حياض مُلكنا: الجُند والمحامون، وهم عندي سواسية ".

       أمّا في اليونان، فما كان افتخار الأغارقة بفيلسوفَي البشريّة الأكبرين، أرسطو وأفلاطون، بأعظم من افتخارهم بمعاصرهما ديموستينوس (Démosthène)، وقد جعلوا مقام المحامي مكانًا مقدّسًا يُرشّ بالماء الطَّهور.

       وماذا أقول في ينابيع المحاماة المتحدِّرة إلينا من فرنسا، وهي الوريثة الشّرعية للقانون الرومانيّ وزعيمةُ الأسرة الرومانيّة الجرمانيّة؟

       منذ بدايات المحاماة الفرنسيّة، خلعوا على المحامين لقبَ الدكتور، وفارس القوانين، الذي يدافع عن الفقراء والأذلّاءِ، الذين هم على صورة يسوعَ المسيح ومثاله.

       وفي رِحاب قصور العدل، قامات أخويّةٌ دينيّةٌ لتكريم شفيع رجال القانون، القدّيس نيقولاوس، وقد اشتقّ المحامون من العصا المرصّعة قبضتها بتمثال القدّيس، التي كان يحملُها رئيس الجمعيّة في الاحتفالات، اسمَ النّقيب، أي حاملَ العصا أو القضيب، (Le Bâtonnier).

       وسواءً كان المحامي إكليريكيًّا أو عِلمانيًّا، فهو يتأدَّبُ بآداب الكهنة، ويرتدي ثوبَ القساوسة، ويحملُ اللقبَ الذي يحملون، وهو "الأستاذ" و "المعلّم" (Le Maître).

       هذا، وقد ولج المحاماةَ رجالُ دينٍ عزَّزت كهنوتهم، وارتفعت بهم إلى درجة القداسة، كما هي حال إيف دو كرمارتان (Yves De Kermartin)، الذي عُرف بالقديس إيف (St. Yves)، وصار شفيع المحامين، أو أبلغتهم السُّدّة البابويّة، كما هي حال غي فولك (Guy Foulques)، الذي صار البابا كليمان الرابع (Clément).

       وتتالت التنظيمات والمؤلّفات التي تشدّد على أدبيّات المحاماة، وترسم واجبات المحامي، وتفرض عليه مناقبيّة صارمة، وتنفُذُ إلى أعماق سريرته، وتوقظ فيه ضميرًا موسوسًا، وترجِّع أصداءَ رواقيّةٍ، ذات نمط رومانيّ، في كلّ ما يعبّر عن الشجاعة والعدالة، والاستقامة، والصدق، ورباطة الجأش، والاعتدال، واحتقار الألم والموت.

       عن فرنسا، أخذ لبنانُ المحاماةَ، عندما أصدرت سلطة الانتداب في 6 شباط 1919 القرار 192 الذي قضى بتأسيس نقابة المحامين، وأصدر حاكم لبنان ترابو، بتاريخ 26 أيار 1921، القرار 655 الذي نظّم مهنة المحاماة في كلّ من بيروت وطرابلس، والذي استكملته دولة الاستقلال بقانون تنظيم المحاماة، الصادر بتاريخ 13/12/1945.

       وسرعان ما وجد محامونا اللبنانيّون، في كلٍّ من نقابتيهم في بيروت وطرابلس، في الخَطابة، إلى قِمّة المجد سُلّمًا، والنفوس على موارِدها حُوَّمًا، والخطيب في كلِّ قومٍ معظَّمًا... فيخلُبُ الألبابَ ببيانه، ويملِكُ العقولَ ببرهانه.

       وقد أوضحَ النَّقيب إدمون كسبار، والدكتور إدمون ربّاط، أنَّهما، في زمن المحاكم المختلطة، كانا يشعران بوطأة محامين فرنسيّين يترافعون، في الجانب الآخر، فلا يرضيان أن يَبُذُّوهما في ميادينِ الخطابة أو سبر أغوار القوانين، لذا، كانا، وزملاء لهما، يستعدّون للمرافعة بالفرنسيّة استعدادًا طويلًا. ويضيف كسبار حرفيًّا: والحقيقة أنّ اللبنانيّين غطّوا على الفرنسيّين. كنّا نتفوّق ونجلّي.

       وكان المجلس العدليّ فردوس البلاغة الحقيقيّ، حيث بلغت الخطابة القضائيّة ذُروتها، وتميَّز أصحابها، من محامين ومحامين عامّين، بالألمعيّة، وعلوِّ الكعب في المحاماة، ومن أشهرهم:

       يوسف السودا، جبرايل نصار، أمين تقي الدين، حبيب أبي شهلا، إميل لحّود، بشاره الخوري، جان جلخ، راجي الراعي، بهيج تقي الدين، نصري المعلوف، وجدي الملّاط، محسن سليم، بدوي أبو ديب، سليم عثمان... وزِد وزِد، كبارًا بيننا اليوم.

وليس مصادفةً أن يكون معظم المترافعين لدى المجلس العدلي أساتذةً مميَّزين، تبوَّأُوا مقدّمة نقابة المحامين، واحتلّوا ناصيةَ المسؤوليّات الوطنيّة والسياسيّة، ومثّلوا، في ذهن العامّة والخاصّة، ما يُسمّى "الدفاع ".

       أمّا محاكم الجنايات، فمسارح صراعات حقيقيّة، وحلبات مبارزات قضائيّة، ومنابر تتفجَّر فوقها شلاّلات الخطابة. فيها ينقلب الكلام المخطوب سلاح المعركة. من هؤلاء العباقرة الأفذاذ، الذين غادرونا إلى فوق: إلياس نمّور، يوسف السّودا، راجي الراعي، حبيب أبي شهلا، فؤاد الخوري، يوسف جرمانوس، إميل لحّود، واكيم البيطار، عبدالله اليافي، رامز شوقي، حميد معوّض، بهيج تقيّ الدين، صلاح لبكي، عبدالله لحّود،

       أمّا الكبار، بيننا اليوم، فأكتفي بالقول: هؤلاء أخواني، فجئني بمثلهم...

       وعندما يضيقُ أفقُ لبنان بطموحات بنيه، يروحُ فرسانه المحامون يبنون للخطابة القضائية محاريب في سوريا، فتُضطَّر الحكومة إلى أن       تضع مكبّرات الصوت في ساحة المرجة، أو أن تحوّل مجلس النّوّاب مكانًا للمحاكمات، بينما تكون إذاعة دمشق تنقل مرافعات عبدالله اليافي، وحبيب أبي شهلا، وجان جلخ، وإميل لحود، في قضيّة اغتيال فوزي الغزّي، ومرافعة يوسف جرمانوس، في محاولة اغتيال رئيس الدولة السوريّة ومرافعات إميل لحود وبهيج تقيّ الدين في قضيّة مقتل عبد الرحمن الشهبندر.

* * *

       أيّها الحضور الكريم،

       هؤلاء المحامون اللبنانيّون، وأمثالهم بالمئات، الذي آمنوا إنّ الكرة الأرضيّة كلّها ساحتهم، وإنّ عليهم المثول حيث يستدعيهم إنسانٌ تتعرّض حياته، أو حريّته، أو شرفه، أو ماله، أو كلُّ ذلك معًا، للخطر،

       هؤلاء المحامون، الذين يبذُلون، في أحيانٍ كثيرة، بلاغةً من نوعٍ آخر، لبلْسمة جُرح، وطرد غُمّة، والإعراب عن عطفٍ صادق، وقد تكون هذه المرافعة الأبقى أثرًا في نفس الموكّل المضطربة، بما تُدخل إليها من نورٍ، تعجَزُ عن مثله تلك التي تخطَفُ الأضواء.

       هؤلاء المحامون، الذي ينوّه بعظيم علمهم واضعُ كتاب "روح الشرائع"، الذي قامت على مبادئه الدساتير، إذ قال مونتِسكيو (Montesquieu)، على لسان قاضٍ، سُئِل عمّا يكابد من مشقّة في القضاء: "إن مهنتنا لأسهل مما يتوهَّم بعضُهم... عندنا كتب حيَّةٌ، هي المحامون، إنّهم يعملون لأجلنا، ويتعهّدون تثقيفنا"،

       هؤلاء المحامون، المسهَّدون، المؤرَّقون، المنقِّبون، البحَّاثون، والمتجسّدون موكِّليهم، الغيارى على مالٍ لهم، وكرامةٍ، وسلامةٍ، وحياة،

       هؤلاءِ المحامون، المتجشِّمون في سبيل موكّليهم، المخاطرَ والأهوال، الجاعلونَ أجسادَهم حواجزَ، وأصواتهم أسوارًا، ومكاتبهم معاقلَ، وروباتِهم متاريس،

       هؤلاء المحامون، الذين، إن غابوا أو غُيِّبوا، غابَ القضاءُ، وغُيِّبتِ العدالةُ، وخَيَّمت الفوضى، وذرَّت شريعةُ الغاب بقرنَيها،

       هؤلاء المحامون، أفرادًا وجماعات، أوّلًا يستحقّون أن نُكرِّس لهم، في العاشر من الشهر العاشر، من كلّ عام، يومًا، نؤدّي لهم فيه تحيّةَ إ كبار؟

       أو كثيرٌ على المحامي أن نخصّص له في العام يومًا، وهو الذي جعل الزمان له أيّامًا!

 

       لا، ليس بكثير، ففي الغد، في المستقبل الآتي، ستكون لكم أيّام، أيّها الزملاء الأحبّاء، لأنّنا سنبقى، أقلامًا وسيوفًا وأصواتًا، محامين ومحاميّات، ندافع عن الحقّ والحريّة والقانون، ونردّد:

"سوف نبقى، يشاء أم لا يشاء الغير           فأصمد، لبنان، ما بك وهن

سوف نبقى، لا بدّ للأرض من حقّ            وما من حقّ، ولم نبق نحن "

 

والسلام عليكم

بيروت في 10/10/2011

 

                                                                              أمل فايز حدّاد

                                                                        نقيبة المحامين في بيروت

 

ADMIN

وُلد المحامي جوزف أنطوان وانيس في بلدة الحدث قضاء بعبدا _ محافظة جبل لبنان _ عام 1978، وتربّى منذ طفولته على حُبّ الوطن والتضحية من أجل حريّة وسيادة واستقلال لبنان. درس الحقوق في الجامعة اللبنانية _ كلّيّة الحقوق والعلوم السياسيّة _ الفرع الثاني، وتخرج فيها حاملًا إجازة جامعيّة عام 2001، وحاز في العام 2004 دبلوم دراسات عُليا في القانون الخاصّ من جامعة الحِكمة _ بيروت. محامٍ بالاستئناف، مُنتسب إلى نقابة المحامين في بيروت، ومشارك في عدد لا يُستهان به من المؤتمرات والندوات الثقافيّة والحقوقيّة اللبنانيّة والدوليّة والمحاضرات التي تُعنى بحقوق الإنسان.

Related Posts
Comments ( 0 )
Add Comment