التبويبات الأساسية

لمحة موجزة عن وضعيّة المحاماة قبل سنة إنشاء نقابة المحامين في لبنان

لمحة موجزة عن وضعيّة المحاماة قبل سنة إنشاء نقابة المحامين في لبنان

لمحة موجزة عن وضعيّة المحاماة قبل سنة إنشاء نقابة المحامين في لبنان

بقلم نقيب المحامين السابق وجدي الملّاط

        ...لم تبصر المحاماة النور بمفهومها الحديث في عهد السلطنة العثمانيّة إلّا في النصف الثاني من الجيل التاسع عشر.

        ولا شكّ في أنّ الحافز على إنشائها جاء في سياق رغبة العثمانيّين الهادفة إلى اقتفاء أثر الغرب، ولا سيّما فرنسا، المنتقلة مؤسّسة المحاماة بقوالبها الكاملة منها إلى مصر حيث كانت سلالة محمّد علي الحاكم، بتشجيع من الخديوي اسماعيل، قد أفسحت _ أو اضطرّت إلى ان تفسح _ للمحاكم المختلطة

في أن تبسط وجودها في القطر المصريّ وقامت في مصر نقابة المحامين المختلطة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وعقبها قيام نقابة المحامين الوطنيّة.

        وانتقلت العدوى إلى سائر الأقطار الدائرة في فلك السلطنة، فظهر المحامي ومثّل ومارس لدى القضاء والإدارة في متصرّفيّة جبل لبنان، كما ظهر لدى محاكم الولايات، ولا سيّما أمام المحاكم التجاريّة والقنصليّة في بيروت.

        وكان دور المحامي ضيّقًا ومتواضعًا، إن في جبل لبنان وإن في بيروت، فلم تكن مفاهيم مونتسكيو في فصل السلطات الثلاث واستقلالها بعضها عن بعض قد تبسّطت، وكانت الهيئات التشريعيّة والإجرائيّة والقضائيّة، متّحدة في إطار واحد متداخل وغير متميّز.

        ودُعي المحامي في جبل لبنان وفي بيروت آنذاك بوكيل الدعاوى، وكان هو والقاضي في مستوى واحد من عدم التنبّه إلى الدور المستحدث والمميّز الذي يجب أن يعود إليهما في الأجهزة العامّة، ولم تكن فكرة الرسالة النضاليّة الشاملة تكشّفت بعد بالقدر الكافي لدى أيّ من أهل المحاماة والقضاة.

        وكانت الدراسات في الشرع والقانون المؤهّلة لممارسة المهنة تعطى للقسم الأكبر من طالبي تحصيل الحقوق، لدى بعض الفقهاء والمشترعين، وقسم قليل من الطلّاب الميسورين قام بالسفر إلى أوروبا، ولا سيّما إلى فرنسا، لمتابعة دراسة الحقوق ونيل شهادة الليسانس أو الدكتوراه لدى الجامعات في الخارج.

        وبقيت الحال على هذا المنوال حتّى تمّ قيام مدرسة الحقوق الفرنسيّة في بيروت، التي أشرف على تأسيسها في العام 1913 في بيروت العلّامة في القانون الرومانيّ، البروفسور بول هوفلين، وأطلق إسمه في ما بعد على الشارع الذي يقع فيه مبنى اليسوعيّة.

        غير أنّه ما إن أتيح للمدرسة أن تنشأ، حتّى أغلقت أبوابها بسبب الحرب التي اندلعت عام 1914، ولم تعد إلى العمل إلّا بعد انتهاء الحرب العالميّة الأولى.

        وعاصر نهاية الحرب تأسيس نقابة المحامين في بيروت عام 1919، بقرار من السلطة الفرنسيّة المنتدبة، وأخذ اللبنانيّون ينتسبون إلى مدرسة الحقوق التي عادت إلى نشاطها، وبدأ مفهوم جديد للمحاماة يشقّ طريقه مستوحى من ذلك المفهوم الاقتحاميّ الحرّ، الذي كان قد توطّد خلال السنوات الخمسين الأولى من قيام الجمهوريّة الثالثة.

        وحملت الموجة الفكريّة الجديدة إلى ميدان المحاماة كوكبة من المحامين الفتيان ... .

        ... كانت قصارى الغايات والآمال لوكلاء الدعاوى في العهود السابقة لسنة 1919، التبريز في كسب القضايا الموكولة إليهم، المحدود دورهم فيها بصيانة مصالح المتقاضين الخاصّة الموكلة إليهم.

        ومنذ العام 1919، ومع عودة مدرسة الحقوق الفرنسيّة في بيروت إلى ممارسة نشاطها في شارع هوفلين وانخراط الطلّاب فيها، ومع انتقال بعض الطلّاب إلى فرنسا للحصول على شهادة الليسانس أو الدكتوراه لديها، تنامت الخيلاء لدى جميع المعنيّين بدراسة الحقوق والمنتوين ممارسة مهنة المحاماة، وهم الإحساس بأن لهذه المهنة نوعًا من الامتياز عن سواها من المهن.

        وهذا الشعور بالتميّز تحدّر عما لوحظ من توطّد النفوذ المرموق الذي حظي به المحامون في فرنسا سحابة الخمسين السنة الأولى من حياة الجمهوريّة الثالثة.

        وكانت القناعة راسخة عند الجميع، بأن عهد الانفراط والتسلّط الذي طوي في فرنسا بولادة الجمهوريّة الثالثة كان الفضل في زواله وفي استئصال طغيانه للمحامين، من خلال لواء المعارضة والتنديد، الذي حمله المحامون في زمن الحكم الاستئثاريّ السابق الذي إنهار بذهاب الأمبراطور نابليون الثالث. وقامت في أعقابه فترة متماسكة غير منقطعة لمعت غيها أسماء المحامين، الذين تحمّلوا التبعات الجسام فآسوا جراح الأمّة، وأعادوا إليها الحياة، ووطّدوا أنظمة الجمهوريّة الجديدة، التي كانت صفوة مقاصدها، صيانة الحريّات العامّة وإخضاعها لنظام الشورى والحوار عبر نظام الانتخابات الدوريّة الحرّة.

        وحدث أنّ عنوان المقاومة في مستهلّ عهد الجمهوريّة الثالثة كان محاميًّا فذًّا يدعى غمبيتا (Gambetta) وهو الذي شحذ الهمم في مناواة الألمان، بعد انتصارهم القاسي والمفاجئ على الفرنسيّين في عام 1870؛ كما يتبدّى أن معظم رجال الدولة الذين تعاقبوا على سدّة الحكم في فرنسا من رؤساء جمهوريّة أو حكومة أو نوّاب أو وزراء، ما بين 1870 و 1918 كانوا من المحامين.

        وفي طليعة هؤلاء رئيس الجمهوريّة الفرنسيّة إبّان الحرب العالميّة الأولى، المحامي ريمون بوانكاريه (Raymond Poincare) إبن مقاطعة اللورين، التي سلخ قسم منها وضمّ إلى الأمبراطوريّة الألمانيّة مع كامل مقاطعة الالزاس، نتيجة الهزيمة في حرب 1870.

        وكان اللبنانيّون الذين تلقّوا علم الحقوق في المدراس الفرنسيّة، قد ارتبطت معظم حضارتهم القانونيّة بالقوالب الفكريّة الفرنسيّة، بسبب انحصار تعليم الحقوق قي لبنان بمدرسة شارع هوفلين، التابعة لجامعة القدّيس يوسف، وبإشراف الآباء اليسوعيّين.

        وقد لوحظ أنّ الجامعة الأميركيّة لم تعمد منذ تأسيسها في لبنان حتّى اليوم، إلى إنشاء أيّة مدرسة لها باللغة الأنكليزيّة لأسباب متعدّدة غير موضّحة، قد يكون الإعتبار السياسيّ هو العامل الأوّل والمانع لها، وذلك خلافًا للمنهج الذي سلكته الجامعة حيال العلوم الأخرى كالطبّ والهندسة والآداب والاقتصاد والتاريخ وسواها من الحقول التربويّة، التي يجب أن يسدى إليها أصدق الامتنان لعطاءاتها فيها.

        فكان طبيعيًّا أن تتربّع الحضارة القانونيّة الفرنسيّة _ منذ مطلع هذا العصر _ في صدراة لم تنازعها مكانتها فيها ايّة حضارة أخرى في لبنان.

        كما كان غير مستغرب أن تكون الحياة العامّة في لبنان في زمن الانتداب الفرنسيّ وبعد زواله، وطوال الحقبة التي انقضت بعد الاستقلال، موسومة بطابع هيمنة رجال القانون ولا سيّما ممارسي مهنة المحاماة بينهم على مقدّرات الدولة... .

( وجدي الملّاط، مواقف، منشورات دار النهار، مقتطافات من كتابات قانونيّة بعنوان عبدالله لحّود والتاريخ الحقوقيّ في لبنان، منشورة في الكتاب صفحة 113)            

editor1

وُلد المحامي جوزف أنطوان وانيس في بلدة الحدث قضاء بعبدا _ محافظة جبل لبنان _ عام 1978، وتربّى منذ طفولته على حُبّ الوطن والتضحية من أجل حريّة وسيادة واستقلال لبنان. درس الحقوق في الجامعة اللبنانية _ كلّيّة الحقوق والعلوم السياسيّة _ الفرع الثاني، وتخرج فيها حاملًا إجازة جامعيّة عام 2001، وحاز في العام 2004 دبلوم دراسات عُليا في القانون الخاصّ من جامعة الحِكمة _ بيروت. محامٍ بالاستئناف، مُنتسب إلى نقابة المحامين في بيروت، ومشارك في عدد لا يُستهان به من المؤتمرات والندوات الثقافيّة والحقوقيّة اللبنانيّة والدوليّة والمحاضرات التي تُعنى بحقوق الإنسان.

Related Posts
Comments ( 0 )
Add Comment