التبويبات الأساسية

محاكمة سقراط أشهر المحاكمات في التاريخ

محاكمة سقراط أشهر المحاكمات في التاريخ

محاكمة سقراط

أشهر المحاكمات في التاريخ

 ... وكانت أثينا قد أبدعت نظاماً سياسياً فريداً هو الديمقراطيّة. فإنّ جميع الأثينيين الذكور الذين أتموا الخدمة العسكريّة، هم مواطنون ويشاركون مباشرة في إدارة المدينة – الدولة. ولا يستثنى من ذلك سوى النساء والغرباء والعبيد.

 ومع ذلك فإن أثينا وهي أكبر " المدن – الدول " اليونانيّة، كانت تمرّ في تلك السنة بمرحلة مأساويّة من تاريخها. فبعد حرب رهيبة مع منافستها القديمة اسبارطة استمرّت سبعة وعشرين عاماً، خرجت أثينا من الحرب منهزمة، وعانت وصمة الإحتلال، وفرض عليها العدوّ نظاماً ديكتاتوريّاً هو نظام " الطغاة الثلاثين " الذي أقيم برئاسة " الأثيني كريتياس " والذي تحرّرت منه منذ فترة قصيرة.

وصحيح أنّ ذلك الكابوس قد انقشع وتلك المعاناة قد انتهت، ولكنّ الأزمنة المضطربة لا بدّ من أن تخلف كثيراً من الأحقاد، إنه وقت تصفية الحسابات. ولكن الذي يطمئن هو عودة المؤسّسات الديمقراطيّة إلى العمل، وبينها القضاء. أما القضاة فهم متطوعون يتم اختيارهم بطريقة القرعة. وبهذه الطريقة يجري اختيار ستّة آلاف قاضٍ كلّ سنة يوزّعون على اثنتي عشرة محكمة، لكلّ منها خمسمائة قاض.

وفي ذلك الصباح أخذ القضاة الخمسمئة أماكنهم، لمحاكمة شيخ جليل جلس على عتبة المنصة، وكان المتهم المسنّ ذا لحية بيضاء، حافي القدمين، يغطّي جسمه بوشاح من الصوف الرخيص. إنّه ابن النحّات سوفرونيسك والقابلة فيلاريت، ويدعى سقراط.

أمّا التهمة التي سيحاكم بشأنها فقد وجّهها إليه المواطن " ميليتوس " الذي يتّهمه بأنّه لا يؤمن بآلهة المدينة، وبأنه قد أفسد شبابها! أما العقوبة التي طلبها له فهي الإعدام.

كان سقراط حينذاك في السبعين من عمره، وهو لا يتمتّع بشيء من الوسامة أو الأناقة، وبينما كان الأثينيون يرتدون الثياب البيضاء المفصّلة من الجوخ الثمين، كان يكتفي بوشاح من الصوف الرخيص ويسير حافي القدمين في الصيف والشتاء.

كان هذا الشيخ الذي يمثّل صورة المتشرّد والحكيم في آن واحد، قد ولد في أثينا سنة 469 ق.م. وكان أبوه نحّاتاً يصنع التماثيل، إلاّ أنّ ابنه لم يرث عنه حرفته، خلافاً للتقاليد السائدة، كما انّه لم يمارس حرفة أخرى، مكتفياً بالتجوال في أنحاء المدينة ومحاورة المواطنين، سائلاً عن مفاهيمهم الأخلاقيّة والسياسيّة، ومناقشاً إيّاهم في هذه المفاهيم.

خمسون سنة قضاها سقراط وهو يعترض الناس ولا سيّما الشبّان منهم، ويجادلهم، في الأسواق أو الحمامات العامة أو في ظلال أشجار الزيتون. وكانت أثينا في تلك الأيّام تحفل بالفلاسفة والخطباء والسياسيّين الذين لا يفتأون يبحثون عن الطلاّب والمريدين، وكان يطلق على أساتذة الفلاسفة اسم " السفسطائيّين "، وكانوا يتقاضون أجراً مرتفعاً من الطلّاب، في حين كان سقراط يرفض أي أجر على الدروس التي يلقيها على الشبّان. وكانت الفلسفة بالنسبة إليه ممارسة عمليّة وعفويّة وطريقة حياة.

وعلى الرغم من أنّه كان زوجاً لإمرأة شرسة ومشاكسة تدعى " كزانتيب "، وأباً لثلاثة أولاد، فإنّ صلته بأفراد مجتمعه كانت أوثق من صلته بأفراد أسرته، فهو منصرف بكليّته إلى المهمّة التي نذر لها نفسه، وهي مناقشة الشبان في شؤون العدالة والأخلاق. وكان بعض هؤلاء لا يفهمون آراءه، وعندما لا يفهم المرء شيئاً يتحدّاه أو يسخر منه. وهذا ما جعل أريستوفان يتّخذ من سقراط موضوعاً لمسرحية ساخرة بعنوان "السحاب" يبدو فيها الفيلسوف في سلّة معلّقة في الهواء وهو يخاطب الغيوم ويستوحيها في إيجاد حلول صالحة لقضايا بلاده.

وقد اعترف سقراط بأنه يعمل مدفوعاً من قبل شيطانه، ولكنه لم يعنِ ما نفهمه نحن من هذه الكلمة، بل كان يعني نوعاً من الإلهام الداخليّ يمكن تسميته بالضمير. وكان ضميره يملي عليه أن يختار بنفسه آراءه الدينيّة والأخلاقيّة، لا أن يأخذها تلقائيّاً عن قومه. وذلك هو الأمر الذي لم يغفر له، ومن أجله يتّهم بإفساد الشبيبة وعدم الإيمان بآلهة أثينا.

ولم يكن في أثينا نيابة توجه الإتّهام، بل كان في وسع أي مواطن أن يوجّه التهمة التي يريد إلى أيّ مواطن آخر، وعلى المحكمة أن تصغي إليه وإلى المتّهم ثم تصدر حكمها بطريقة الإقتراع السرّيّ. وكان الذين وجهوا الإتهام إلى سقراط ثلاث مواطنين هم ليكون وأنيتوس وميليتوس، الأول منهم ديمقراطيّ متصلّب وأحد ممثّلي النظام الجديد، والثاني تاجر جلود تخلّى عنه ابنه ليلتحق بالفيلسوف، والثالث شاعر ناشىء اتّخذ من الشعر والخطابة حرفة له. وعلى الرغم من أن سقراط لم يكن سياسياً بالمعنى المفهوم من هذه الكلمة، فإن الديمقراطيّين كانوا يكرهونه وكان بين تلاميذه عدد من الأرستقراطيّين بينهم كريتياس زعيم النظام الديكتاتوريّ الإسبارطيّ الذي أطيح به إثر ثورة شعبيّة. ولم يكن الفيلسوف ليجد غضاضة في مصادقة هؤلاء الإرستقراطيّين وتبادل الرأي معهم حول العدالة والفضيلة والمعرفة، فهو لا يؤمن بالأحزاب وإنما يؤمن بالأفراد. وتلك جريمة لا تغتفر في عهود الاضطراب السياسيّ.

إن هذا الساخر الأشعث المهلهل الثياب، الذي لا عمل له سوى الإنتقال من مكان الى آخر لإعتراض الشبّان والطعن في معتقداتهم الأخلاقيّة والدينيّة، والنيل من مواقفهم الفكريّة والسياسيّة، قد أثار عليه الكثيرين من رجال المدينة، ومنهم الآباء الذين أنكرهم أبناؤهم، والسياسيّون الذين سفّه آراءهم ومواقفهم، والسفسطائيّون الذين طالما هزأ بهم وسخر من تعاليمهم، فجاؤوا جميعاً للإنتقام منه في هذه المحاكمة الفريدة.

وبعدما وجّه المتّهمون إلى الشيخ الجليل كل ما لديهم من تهم تدور حول إفساد الشبيبة وتلقينها أفكاراً جديدة تتناقض مع تراث أثينا الدينيّ والأخلاقيّ، جاء دور المتّهم ليدافع عن نفسه. وكان على كلّ متهم أن يقوم بهذه المهمة بنفسه ولا يحقّ له أن ينيب عنه محامياً أكثر خبرة منه بشؤون الدفاع، وإذا كان المتّهم عاجزاً عن التعبير عما يريد فمن حقّه أن يكلّف أحد المحامين بأن يعدّ له دفاعاً مناسباً ثم يعمد إلى حفظه غيباً وترديده أمام المحكمة.

وقد تطوّع ليزياس وهو أشهر المحامين في أثينا، لكتابة دفاع عن سقراط باعتباره أكثر معرفة منه بالقوانين والأسلوب الذي يؤثّر في القضاة، ولكن الفيلسوف الشيخ رفض قبوله وأعاده إليه قائلاً : "إن خطابك جميل جداً يا ليزياس، ولكنّه لا يشبهني. هل تعتقد بأنّ معطفاً أنيقاً وحذاءً جميلاً يليقان بي؟!".

وبدأ سقراط دفاعه، وقلب كاتب المحكمة الساعة المائية التي تقيس الوقت الذي يجب أن يستغرقه هذا الدفاع، إذ إن من حقّ المتّهم أن يستغرق دفاعه من الوقت بقدر ما استغرقته خطابات الإتّهام.

سقراط وسلاح... الهجوم   

وخلافاً لما يتخيّل المرء لم يكن سقراط خطيباً بل كان رجل حوار وجدل ونقاش. وهذا الأمر لا يفيد في المحكمة وإثارة عاطفة القضاة، ولهذا دهش هؤلاء عندما سمعوه يقول :

  • إنّه لحظ سعيد للشباب، إذا كنت المفسد الوحيد لهم وكان جميع الأثنيين مصلحين لهم.

ولم يدافع سقراط عن نفسه بل عمد إلى الهجوم، فذكر القضاة بأن عرافة معبد دلفس كان قد أعلن أن سقراط هو أعلم الناس، وتساءل عما عناه العرّاف بذلك، وقال :

  • لقد قمت بتحقيق. فاستجوبت جميع الأشخاص الذين يسمونهم علماء، وتأكّدت من أنّهم لا يعلمون شيئاً.

وأوضح الفيلسوف ما استخلصه من ذلك. فقال :

  • لا شكّ في أنّي أعلم الناس، لأن الأخرين يعتقدون بأنهم يعلمون بعض الأشياء في حين أنهم لا يعلمون شيئاً. أما أنا فإني أعلم بأني لا أعلم أي شيء.

ويضحك القضاة ويحتجّ الرئيس على هذه الضجة، ويتابع سقراط حديثه فيتكلم عن " شيطانه " أو بالأحرى عن عبقريته، ويعلن حقّه في إطاعة ذلك الصوت الداخليّ، واتباع نصائحه، ويصرّح بصوت عال أنه في حال برئت ساحته، فسيتابع كما فعل في الماضي تدريس فلسفته. ويحذر القضاة من الحكم عليه بالموت قائلاً :

  • إذا قتلتموني أيها الأثينيون، فلن تجدوا رجلاً مثلي. إن أبولون قد وضعني هنا لأبقى على هذه المدينة، في حال اليقظة، فإذا ما أعدمت فإن الله سيغرقكم في نوم أبدي.

وأنهى سقراط دفاعه دون أن يسترحم القضاة كما جرت العادة لدى المتّهمين الأخرين الذين يحيطون أنفسهم أثناء المحاكمة بأولادهم لإثارة العطف واستدرار الشفقة، ولم يخف القضاة دهشتهم من موقف التحدّي الذي اتّخذه وعدم المبالاة الذي بدا عليه، واتّجهوا شطر صندوقة الإقتراع ليضعوا أصواتهم فيها، وكان عليهم هذه المرّة أن يحدّدوا موقفهم من الإتّهام الموّجه إليه، فيعلنوا هل هو مذنب أم غير مذنب، وكان كلّ واحد منهم مزوّداً بحلقتين من المعدن واحدة ملأى تعني الإدانة والثانية مجوفة تعني البراءة. وعليه أن يحملهما معاً ثم يضع في الصندوقة واحدة منهما بطريقة معيّنة تصون سريّة الاقتراع.

وبعدما عاد القضاة إلى أماكنهم، أحصى كاتب المحكمة عدد المقترعين بالإدانة فتبيّن أن عددهم مائتان وثلاثون في حين أن عدد المقترعين بالبراءة كان مئتين وعشرين، أي أن الإدانة قد تمت بأكثريّة ضئيلة، ولكنّها أكثريّة على كلّ حال. وعاد سقراط إلى الكلام، ولم يصدّق القضاة ما سمعوه. لقد كان من حقّه أن يناشدهم تخفيف الحكم عليه في الإقتراع الثاني الذي سيحدّد نوع العقاب ويقترح العقاب الذي يتصوّره. ولكنّه قال إنه يستحقّ المكافأة لأنه بدلاً من أن يبذل نشاطه في الحصول على منصب رفيع، قضى حياته وهو يقدم الخدمة للناس بإقناع كلّ فرد منهم بألا يفكر ويهتم بالفوائد العمليّة أشد من تفكيره واهتمامه بفوائده العقليّة وسعادته الأخلاقيّة. ثم تساءل عن المكافأة اللائقة بإنسان فقير ومحسن للناس. ورأى أنه لا يقل عن المكافأة التي تقدّمها الدولة للفائزين في السباقات الرياضيّة، بإعالتهم على حساب الدولة، فهؤلاء يقدّمون للناس ما هو شبيه بالنجاح، أما هو فيقدّم لهم حقيقته الواقعيّة.

وفسّر سقراط لماذا اقترح هذا العقاب _ المكافأة، في حين أن متهمه ميليتوس اقترح إنزال عقوبة الموت به. فقال إنه لم يكن من المعقول طبعاً أن يطلب إنزال الموت به، أما السجن فلا يريده لأنه سيمضي أيامه فيه خاضعاً لأوامر رجال الضابطة العدليّة، ولو اقترح الغرامة النقديّة لما أمكنته دفعها لأنّه لا يملك المال اللازم لذلك (أعلن أصدقاؤه وتلاميذه وفي مقدمتهم أفلاطون أثناء الجلسة استعدادهم لدفع الغرامة في حال تقريرها). يبقى أن يقترح النفي ومن المرجّح جداً أن يوافق القضاة على ذلك، ولكنّه يعرف حقّ المعرفة أنّه أينما حل فسيلتفّ الشباب من حوله وسيصغون إلى أحاديثه كما يفعلون في أثينا، فيُنفى من جديد ويمضي ما تبقى له من أجل مطروداً من كل مدينة يدخلها، ولو قيل لماذا لا تقضي بقية حياتك في المنفى منصرفاً إلى شؤونك الخاصة، لأجاب أنه لا يستطيع ذلك لأنّ الصوت الذي يهتف في داخله يدفعه إلى مسلكه ذلك دفعاً.

 وتعالت أصوات السخط والإستنكار لهذا التحدي والإستهزاء، فقد كان في وسع الفيلسوف، كسب الأقليّة الضئيلة التي صدرت بموجبها إلى جانبه، لو تصرّف بشيء من اللباقة والدهاء، ولكنّه أبى إلاّ الإستمرار في مواجهة قضاته بطريقته الصريحة والصارمة؛ فاتّجه هؤلاء إلى صندوقة الإقتراع بثيانهم البيضاء، وكانت نتيجة الإقتراع هذه المرّة الحكم عليه بالموت: بأكثريّة بلغت ثلاثمئة وستين صوتاً.

وحينئذ وقف سقراط وخاطب القضاة بقوله :

  • لا شكّ في أنّكم تعتقدون بأنّكم أدنتموني لأنّي لم أقّدم الأدلة والبراهين التي كان في وسعي تقديمها لإثبات برائتي. ولكن هذا الإعتقاد بعيد عن الحقيقة، فليس الإفتقار إلى البراهين هو الذي أدى إلى إدانتي. وإنما الإفتقار إلى السفاهة والوقاحة والسلاطة. بالإضافة إلى رفضي مخاطبتكم بالأسلوب الذي يرضيكم، ويشيع في نفوسكم الغبطة. لقد كنتم تريدون لي أن أبكي وأعول وأفعل كل ما اعتدتم سماعه من الناس، وما أراه غير جدير بي. إنّي لم أعتقد البّتة بأنه يجب عليّ أن أخضع للحقارة والمذلّة، لا لشيء إلا لأنّ الموت محدق بي، وأنا أفضّل الموت نتيجة للمنهج الذي سلكته في دفاعي، على الحياة نتيجة لنوع آخر من الدفاع، ففي قاعة المحكمة كما في الحرب، لا ينبغي للمرء أن يستعمل حصافته لينجو من الموت بأي وسيلة كانت. ومن الواضح أنّ في وسع المرء أن ينجو في المعركة من الموت بإلقاء سلاحه والإرتماء على أقدام مطارديه. كما أنّ هناك في كل نوع من أنواع الخطر، العديد من الحيل للنجاة من الموت، إذا كان المرء من ضآلة الضمير بحيث يتمسّك بأي شيء، لكنّي أعتقد بأن المعضلة لا تكمن في النجاة من الموت، وإنما المعضلة الحقيقّية هي النجاة من فعل الشرّ والشرّ سريع الخطى رشبقها. وقد تغلبت عليّ أنا الشيخ الطاعن في السنّ والبطيء الخطى، المعضلة الأولى والأبطأ خطى من الثانية، وتغلبت على المدعوين وعليّ المعضلة الثانية الأكثر سرعة ورشاقة وأعني بها الظلم والشرّ. وعندما أغادر هذه القاعة فسأذهب وقد أدانني الموت. أما هؤلاء فسيغادرونها وقد أدانتهم الحقيقية، حقيقة الشرّ والضلال، وهم سيتقبلون ما أدينوا به. كما أتقبل أنا ما أدنتموني به، وأعتقد بأنّ النتيجة جاءت عادلة بما فيه الكفاية.

سأقول لكم أيها الجلاّدون، يا جلاّدي، إنّه حالما يطويني الردى، فإن عقوبة أشد ستنزل بكم، لقد تسبّبتم في قتلي اعتقاداً منكم بأنّكم ستنجون من تعرض سلوككم للنقد، ولكنّني أقول لكم إنّ النتيجة ستكون عكس ما تريدون وتشتهون. فناقدوكم سيزدادون عدداً، هؤلاء الناقدون الذين كنت لا أفتأ أكبح من جماحهم دون أن تعرفوا أنتم بذلك. ونظراً لأن هؤلاء هم دوني سناً، فسيكونون أشدّ عنفاً بالنسبة لكم. أمّا إذا كنتم تتوقعون أن تضعوا حدّاً للتعريض بسلوككم الخاطئ، بإعدام الناس، فلا شكّ في أنّ ثمّة شيئاً مغلوطاً في تفكيركم. لأن الطريق الأصحّ لبلوغ غايتكم، ليست في إقفال أفواه الناس وإخراس ألسنتهم، بل في سعيكم إلى بلوغ درجة أسمى من الخير والصلاح، هذه رسالتي إليكم يا من اقترعتم بإدانتي.

وكانت الطريقة التي اختيرت لموته هي الأرحم بين طرق الإعدام المطبّقة في أثينا، وهي تقضي بأن يقدّم له كأس من السمّ فيشربه، كأنّه إنتحار إجباري. ولكن انقضى شهر قبل أن ينفّذ الحكم، وذلك لأسباب دينيّة، ففي هذا الشهر من شهور الربيع تذهب بعثة دينيّة إلى جزيرة دلبوس، ومن أقصى ما لديك من جهد لتدمير بلادك وقوانينها ردّاً على فعلنا ذلك؟ وهل ستزعم وأنت المتعبّد الصادق للصلاح، بأن لك ما يبرّر فعلتك تلك؟ وهل من الحكمة ما يجعلك تنسى أن بلادك، إذا ما قورنت بأبيك وأمك وبقية أسلافك، لهي أثمن منهم بكثير وأعمق منهم احتراماً وأسمى منهم قداسة؟ ألا تدرك أن واجبك يقضي عليك باحترام وتهدئة غضب بلادك، أكثر من احترامك لغضب أبيك وتهدئته. إن العنف إثم إزاء والديك، غير أنه إثماً أبلغ وأفدح إذ افترفته ضد بلادك!".

أخرجوا ... زوجتي

وعادت البعثة المقدسة من دلبوس، وفي صبيحة اليوم التالي توافد تلامذة سقراط إلى السجن، وبينهم فيدون وإيبيجين وأبولودور وكريتون وكريتوبول وهيرموجين وكتيبس ومينيكسين وسيمياس وإقليدس. وتخلّف أفلاطون عن المجيء لمرضه وقيل أنه غادر أثينا لئلاّ يتعرّض لمصير مماثل. ولما أحاطوا به فّك السجّان قيود الفيلسوف، وجاءت زوجته كزانتيب وهي تنتحب، فرجاهم إخراجها من الزنزانة لأنّه لا يستطيع تحمّل صراخها، ثمّ اتّجه إليهم يحاورهم عن الفنّ والموسيقى والموت والنفس، وحين لاحظ الجلّاد أن انفعاله يتعاظم أثناء المناقشة، دنا منه قائلاً :

  • لا تتحرّك كثيراً وإلّا فإن السمّ لن يؤثّر فيك سريعاً..

فبدا عليه الإمتعاض وقال له :

  • ما عليك إذاً إلا أن تضاعف الكميّة!

وعاد إلى مناقشة الحارة. وكان الحاضرون يحدقون به في في دهش وإعجاب. وقد بدا التناقض صارخاً بين القلق واليأس المسيطرين عليهم والهدوء التام الذي بدا عليه. ولما انتهى الجدل بين المعلم وتلامذته دخل إلى الحمام ليغتسل وهو يقول :

  • أريد أن أجنّب النساء غسل الجثّة!

وحين خرج من الحمام قدّم إليه الجلّاد كأس السمّ قائلاً :

  • إني أعلم أن الأمر معك لن يكون كما هو مع الآخرين. فهؤلاء يغضبون عليّ ويلعنونني حين أقدّم السمّ لهم، أمّا أنت، وأنت الأكثر حكمة بيننا، فسوف تعرف كيف تتقبّل ما لا بدّ منه!

فأجاب سقراط :

  • حييت يا هذا.. ماذا يجب أن أفعل؟
  • لا شيء سوى أن تقوم ببضع خطوات بعد شرب السمّ، حتى تشعر بثقل في ساقيك، وعليك حينئد أن تستلقي حتى يفعل السمّ فعله.

وأخذ سقراط الكأس وشرب كل ما فيه. فارتفع صراخ الحاضرين ونحيبهم، فغضب ورجاهم أن يكفّوا عن ذلك، وذكرهم بأنه إنما أبعد زوجته كي لا يسمع نحيبها، ولما شعر بثقل في ساقيه استلقى على ظهره. فدنا من الجلاد وضغط على قدميه وسأله :

  • هل تحسّ شيئاً؟
  • كلا...

ففحص الجلاد ساقيه ثم قال :

  • لقد بدأت أعضاؤه تبترد، ومتى وصل البرد إلى قلبه مات.

ونادى سقراط صديقه كريتون وهمس في أذنه:

  • نحن مدينون بديك لاسكولوب، فقدمه له بلا نقاش!

فقال كريتون :

  • سأفعل ذلك، هل تريد شيئاً آخر؟

فلم يجب سقراط، واختلج اختلاجة، لفظ معها نفسه الأخير، فأغلق له كريتون عينيه وفمه. وأخذ يفكر في كلماته الأخيرة، فما معنى تقديم هذه الذبيحة لإله الطّب، هل كان معناها أن الموت هو الشفاء من هذا المرض الذي يسمونه الحياة؟!  

(  يراجع في ذلك، كتاب قدري قلعجي أشهر المحاكمات في التاريخ 18 محاكمة تفوق الخيال )

 

 

        

 

editor1

وُلد المحامي جوزف أنطوان وانيس في بلدة الحدث قضاء بعبدا _ محافظة جبل لبنان _ عام 1978، وتربّى منذ طفولته على حُبّ الوطن والتضحية من أجل حريّة وسيادة واستقلال لبنان. درس الحقوق في الجامعة اللبنانية _ كلّيّة الحقوق والعلوم السياسيّة _ الفرع الثاني، وتخرج فيها حاملًا إجازة جامعيّة عام 2001، وحاز في العام 2004 دبلوم دراسات عُليا في القانون الخاصّ من جامعة الحِكمة _ بيروت. محامٍ بالاستئناف، مُنتسب إلى نقابة المحامين في بيروت، ومشارك في عدد لا يُستهان به من المؤتمرات والندوات الثقافيّة والحقوقيّة اللبنانيّة والدوليّة والمحاضرات التي تُعنى بحقوق الإنسان.

Related Posts
Comments ( 0 )
Add Comment