التبويبات الأساسية

محطات مارونية في تاريخ لبنان

محطات مارونية في تاريخ لبنان

محطّات مارونيّة من تاريخ لبنان

الأباتي بولس نعمان

الجذور التاريخيّة للمسيحيّة في لبنان

 

لبنان في العصر البيزنطي (395-634)

في كلامه على بيروت، ختم العالم الجغرافيّ الفرنسيّ إليزيه روكلو Elisee Reclus  حديثه بعذه الكلمات:"هذه المدينة هي واحدة من المدن التي يجب أن تستمرّ في البقاء على رغم كلّ شيء. يمرّ الغزاة وتعود المدينة إلى حياتها بعد رحيلهم". هذه الكلمات ذاتها تنطبق، لحسن الحظّ، لا على مدينة بيروت فحسب، إنما كذلك، وقبل كلّ شيء، على لبنان الموغل في القدم، هذا الذي اتّخذ بيروت عاصمة له.

 فلبنان هو من البلدان التي وُهبت ديمومة الحياة إلى ما لا نهاية. فالنقوش التسعة عشر على صخور نهر الكلب والآثار الغنيّة الضاربة في عمق التاريخ، التي أزيل عنها الغبار أخيرًا في بيروت، ليستوى شواهد ساطعة على ذلك.

قبل أن نتطرّق إلى دراسة مفصّلة لما نعرف عن لبنان ذلك العصر، من المجدي أن نحدّد الأهميّة والمدى التاريخيّ والجغرافيّ لهاتين اللفظتين اللتين نودّ الكلام عليهما: لبنان والعصر البيزنطيّ.

 لبنان   

 في العام 64 قبل الميلاد، أعلن الوالي الرومانيّ "بومباي" المنطقة التي احتلّها "ولاية رومانيّة". وهي تضمّ، من جهة، الفراتَ الأعلى وخليج إيسوس، ومن جهة أخرى، مصر والصحراء العربيّة.

هذه الولاية التي أُسميت في البدء "ولاية سورية" تفتّتت مع الزمن، إما بسبب جنسيّات سكّانها الشديدة الإختلاف، وإما بسبب الإنقسامات السياسيّة التي أصابت البلاد في أواخر عهود السلالة السلوقيّة (ممّا يعني أنّ التسمية لم تكن طبيعيّة بل سياسيّة).

ففي السنة السادسة قبل الميلاد انفصلت عنها ولاية "اليهوديّة"، وبَدْءًا من القرن الثاني، غلب على هذه الولاية اسم "سورية – فلسطين"، وفي العام 194 فصل سبتيموس ساويروس "سورية الداخليّة" أو سورية العليا عن "سورية الفينيقيّة". وهكذا تفرّعت هذه "الولاية السورية" ثلاث ولايات: الفلسطينيّة اليهوديّة، والسوريّة العليا والفينيقيّة.

وفي القرن الرابع وبداية الحكم البيزنطيّ، قُسّمت "سورية الفينيقيّة" "فينيقيّة البحريةّ" و "فينيقيّة اللبنانيّة".

  • ففينيقية البحريّة، وعاصمتها صور، كانت تضم مدن انتارادوس، أرواد، عرقة، طرابلس، اورتوزي، البترون، جبيل، بيروت، النبي يوسف (الجية)، صيدا، شرق راشيا، وقيصريّة فيليب، أعني لبنان التاريخيّ بكامله فضلًا عن الجزء الجنوبيّ من السلسلة الشرقيّة.
  • أما فينيقية اللبنانيّة، وعاصمتها دمشق، فكانت تضمّ بعلبك، اللاذقية، أبيلا، حمص، تدمر، أعني الجزء الشماليّ من السلسلة الشرقيّة، إلى البقاع والشطر الشرقيّ كاملًا، وصولًا إلى تدمر.

إنّ لبنان التاريخيّ الذي يؤلّف اليوم الجمهوريّة اللبنانيّة، يضمّ، إذًا، الشطر الأكبر من "فينيقيّة البحريّة" (ما عدا ارواد وانتارادوس في الشمال)، مضافة إليه بعلبك والبقاع من "فينيقية اللبنانيّة".

  

 العصر البيزنطيّ

ليس من السهل أن نحدّد بدقة بداية العصر البيزنطيّ، إذ إنّ الدولة البيزنطيّة لم تكن، حين نشوئها، سوى امتداد متقلّب أبدًا للإمبراطورية الرومانيّة القديمة. هذه الإمبراطوريّة لم تنقرض فجأة بانتقال العاصمة إلى القسطنطينيّة في العام 330، بل من الأنسب أن نرجّح لذلك العام 395، عام وفاة ثيودوسيوس وقسمة الإمبراطوريّة بين إبنيه أركاديوس وهونوريوس. كما أرجع البعض بدايات الإمبراطوريّة البيزنطيّة إلى عهد يوستنيانوس (527-565) أو بالأحرى إلى عهد لاوون الأوزوريّ (717-740).

من الأصحّ إذًا حصر بداية هذا العصر من ضمن فسحة من الزمن لا في تاريخ معيّن.

في هذه الحال، إنّ نقل العاصمة إلى القسطنطينيّة، ثم وفاة ثيودوس التي عقبها قسمة الإمبراطوريّة، جعلا بلادنا تطلّ على عصر سيدعى لاحقاً العصر البيزنطيّ الذي سينتهي بالفتح العربيّ (632-640).

وسيتميّز هذا العصر بالنسبة إلى لبنان بظاهرتين هامتين: انبثاق الشعور الوطنيّ وانتشار المسيحيّة. هذان العاملان، كما يحصل عادة في التاريخ، سارا في الإتّجاه نفسه، وساهما، بذلك، مساهمة فّعالة في تفتّح الشخصيّة اللبنانيّة، هذا التفتّح الذي سيتجلّى في تحوّل عميق يشمل هيكليّات البلد الإنسانيّة والاقتصادية والثقافيّة والروحيّة.

 

  1.  انبثاق الشعور الوطنيّ 

أولاً: التنظيم الجديد

 إنّ التحرّك الوطنيّ في بداية القرن الرابع، أخذ أبعادًا لم يعد ممكنًا حجبها. وقد وعى الأباطرة ذلك؛ فإقامتهم في إنطاكية وسورية، ونقل العاصمة، وقسمة الإمبراطوريّة، كلّها لم تُفلح في لجم هذه الحركة وتجميدها.

لقد أُجريَ إذّاك تقسيم جديد، نوع من تجزيء إداريّ عُني بالتوزيع الجغرافيّ للجنسيّات الكثيرة التنوع في "الولاية السوريّة". ففي فصل فينيقية عن سوريّة وعن فلسطين وقسمتها ولايتين: فينيقية البحريّة وفينيقية اللبنانيّة، إقرار من البيزنطيّين بالطابع الأصيل والشخصيّة المميّزة لهذه المنطقة.

ونتساءل بعدُ، عن الضرورات التاريخيّة التي أملت على هؤلاء الإداريّين المحترفين أن يضمّوا إلى فينيقية اللبنانيّة أقضية قاريّة ومدنًا مثل دمشق وحمص وتدمر، لم تكن أصلًا، حسب الآب هنري لامنس، تابعة لا لفينيقية ولا للبنان.

 

 ثانياً: الإدارة

لم يطوّع البيزنطيون من هاتين الولايتين سوى عدد قليل من الجنود. كانوا يخشون، حسب بعض المؤرّخين، الفرَقَ المطوَّعة محليًّا والقوّاد البلديين. ودفعوا بالمواطنين الأصليّين إلى نسيان مهنة السلاح. إلى ذلك، غدت المدن الكبيرة التي تفتقر إلى أعتدة كافية، عاجزة عن الصمود في وجه الغزوات العربيّة، وعلى الأخص الغزوات الفارسيّة. ومع ذلك، عمدت السلطة، لتحصين هذه المدن، إلى زيادة الضرائب والتشدّد في الجبايات. من هنا، أصبح الشعب مهدّدًا، مجرّداً من السلاح، مُبعدًا عن الخدمة العسكريّة، مُضَحّى به لمصالح الدولة والموظفين البيزنطيّين، مما ألجأه إلى التنكّر للحكم وإضمار السخط إزاء الإمبراطوريّة، فهجر سهول الشاطئ الخصبة وقصد الجبل الذي كان وقتها _ ما خلا بعض مراكز ريفيّة _ يضمّ فقط بعض أماكن عبادة ومعقلًا للنسّاك وحدهم.

 إلى مضايقات الدولة هذه، حصلت نكبات مثل الطاعون والجراد، وأخيرًا زلزال سنة 349 ب.م.، وعلى الأخص زلزال سنة 555 ب.م. الذي أعقبه هياج أمواج البحر الذي يشير إليه تاريخ لبنان.

 هذا الزلزال الثاني البالغ العنف هزّ الشاطئ الفينيقيّ ونالت بيروت منه الأذى الأكبر، إذ قضى تحت الأنقاض ما يناهز 30000 شخصًا. كما انّ مدرسة الحقوق المشهورة في ذلك العصر دُمّرت تدميرًا كاملًا وزالت من الوجود.

ثالثاً: التجارة والصناعة

لم تثبّط هذه الكوارث عزيمة السكّان الأصليّين ( الذين دعاهم اليونان فينيقييّن). فهم، بصفتهم تّجارًا في أكثرهم، أكملوا سيطرتهم على أسواق أوروبة التي كانت تسودها البلبلة، ناهيك بغزوات البرابرة لها. كما ان بحّارتهم مخروا البحر المتوسط وأقاموا مستعمرات في أهمّ مدن إسبانية وإيطالية وبلاد الغول، وبلغوا موانئ البحر الأسود ووصلوا حتّى مراكش.

وفي القرن السادس، عرفت تجارة الأقمشة ازدهارًا جديدًا بفضل إدخال دود الحرير البلاد بواسطة الرهبان المرسلين. فتطوّر إنتاج الحرير الخام إلى جانب صناعات الزجاج والأرجوان المحليّة التقليديّة، وانتعشت الصناعة في البلاد مما أدّى إلى الإزدهار الاقتصاديّ في لبنان ذلك العصر المترجرج.

 وإظهاراً للحقيقة، نشير إلى أنّ اللبنانيّ، بفضل إنتاج الحرير الذي تركّز في المرتفعات الوسطى، بدأ يميل إلى الحياة الريفيّة ويكتشف جمال "جبله الملهم" ومشوّقاته التي لا تحصى. فالغابات الكثيفة التي كانت حتّى ذلك الوقت تغطّي الأراضي الجبليّة قُضي عليها وحلّت محلّها الجلالي والبساتين. يقول الآب هنري لامنس:"هذه النهضة الاقتصاديّة تعطّلت، مع الأسف، لسوء السياسة الأنانيّة التي اتبعتها بيزنطية". فتصنيع الحرير، إلى الأرجوان، أصبحا وقفًا على الإمبراطوريّة، وبالتالي حكرًا على المعامل الإمبراطوريّة وحدها. فالإنتاج والتصدير خضعا للمراقبة، مما أدّى إلى تعميق الهوّة بين السكان الأصليّين والإمبراطوريّة، وجعل الشعور الوطنيّ، في ردّة فعل، أكثر تأجّجًا.

 

  رابعاً: اللغّات والثقافات

دخلت الهلّينيّة فينيقية مع السلوقيّين، (312 ق.م.) ولاقت اعتبارًا وتقديرًا في العهود الرومانيّة والبيزنطيّة، "بيد أن لم تسُدْ إلا في شطر من البلد، حسب العالم بول بيترز paul peters ، ومع ذلك كانت السيطرة غير كاملة"؛ لقد اقتصرت في الواقع على نوع من النفوذ الأرستقراطيّ. حتّى في المدن التي انتشرت فيها الهلّينيّة أكثر من سواها، كانوا يتكلّمون بطلاقة الكنعانيّة وخصوصًا الآراميّة ( السريانيّة ) .

 إلى جانب اللغة اليونانيّة والثقافة الهلّينيّة، شجّع الرومان والبيزنطيّون اللغة اللاتينيّة والتنشئة الحقوقيّة. وأصبحت اللغة اللاتينيّة لغة الجيش ولغة القانون؛ وكان لا بدّ للذين يطمحون إلى الوظائف الهامّة في الإدارة وإلى المهمّات القضائيّة من إتقان هذه اللغة. واعتُبرت بيروت، مركز هذه الثقافة، " أمّ الدروس الحقوقيّة ومُرضعها". لقد أُنشأت فيها، منذ بداية القرن الثالث، مدرسة حقوق حازت شهرة كبرى، ولا سيما في القرنين الرابع والسادس. "اشتهر من أساتذتها رجال قانون ذوو وزن نادر مثل أولبيانوس وبابينيانوس، أرقى مرجعين في القانون الرومانيّ" : كان يُلجأ إليهما من ولايات الإمبراطوريّة المختلفة وحتّى من القسطنطينّية. وفي عهد الإمبراطوريّة الأولى Bas – Empire  كان لا بدّ للدارسين الناشئين من ان يمرّوا في بيروت "ويسكنوا في فينيقية" كما كان يقال آنذاك.

ولئن كانت اليونانيّة لغة المعنيّين بالآداب والفلسفة، واللاتينيّة لغة القانون والجيش، فإن الآراميّة كانت لغة الشعب والكنيسة. وهذه اللغة سيزداد انتشارها بمقدار نموّ الشعور الوطنيّ. فالكنيسة نفسها سترفع عاليًا مشعل النهضة الأدبيّة. وستُعتمد اللغة الآراميّة المحليّة في مدرسة الرها التي انشأها نحو نهاية القرن الرابع القدّيس افرام وقد زادت شهرتها على الأخص عند انتشار ترانيم هذا العبقريّ الكبير، وبدأت تستوعب، في ترجمات، أعمال آباء الكنيسة.

كذلك بلغ أدبها أوجَه في القرنين الخامس والسادس، وأصبحت الآراميّة آنذاك اللغة الرسميّة للكنيسة الإنطاكيّة. وبغية تنقيتها من كلّ الشوائب الوثنيّة، بُدّل اسمها وعُمّدت نوعًا ما، فأُسميت من وقتها اللغة السريانيّة (نسبة الى سورية). يلوم ثيودوريطس القورشيّ الذين كانوا يتبجّجون بالمزايا الثقافيّة للغة اليونانيّة، فيقول: "لا أقول ذلك لأقلّل من قيمة اللغة اليونانيّة التي هي إلى حدّ ما لغتي... إنمّا لأسُدّ أفواه الذين يتباهون بها... وأثير إعجابهم إزاء الناطقين بلسان الحقيقة (السريانيّة) الذين لم يتعلّموا زخرفة خطبهم وترصيعها بأسلوب جميل، بل يكشفون جمال الحقيقة في عريها دون أن يحسّوا بأدنى حاجة إلى الزخارف الغريبة والمستوردة من الخارج".

 

 خامساً: الفنّ

في انطلاقة موازية للغة والأدب، نهض الفنّ بدوره نهضة رائعة موسومة بطابع وطنيّ خاص، وكان في مجمله فنًّا دينيًّا.

يقوا الآب لامنس: "الفنّ المعماريّ والرسم والنحت والفنون التزينيّة سلكت سبلًا جديدة عن النماذج اليونانيّة _ الرومانيّة التي رفدت الإنتاج الفنّي بكامله منذ العهد السلوقيّ. لقد حلّ الحجر المنحوت محلّ القرميد الرومانيّ والبيزنطيّ. واستعمل "العقد" بتصميم الكنيسة ذات الشكل الثمانيّ (octagone) . كما دُشّنت الكنائس ذات القباب، وانتشرت في البلاد الكنائس الفخمة (البازليك Basiliques ) التي تُثير أطلالها الضخمة إعجاب علماء الآثار". إلى ذلك كثرت الزخارف والنقوش، منها ما يمثّل أنواعًا من النباتات ومنها أشكالًا هندسيّة مختلفة ( دوائر، أشكال نجوم وورود، صلبان، معيّنات (losanges)، إلخ..) .

هذه جميعها أُطلق عليها اسم "فنّ الزخرفة العربيّ" (أرابسْك). أخيرًا انّ الفسيفساءات المكتشفة في المدن الرئيسيّة مثل جبيل والجيّة وغيرها، والتي تعود الى ذلك العصر، تدلّ الى الذوق المرهف والإبداع المميّز اللذين سادا آنذاك.

 

  1. انتشار المسيحيّة

هذه السيطرة التي أشرنا إليها سابقاً في اللغة والأدب والفنّ، ليست سوى دليل ساطع على تجذّر المسيحيّة في لبنان. لقد سبق وأعلن المسيح نفسه للكنعانيّة الفينيقيّة غبنة صور التي أعجب "بإيمانها العظيم". ولكن كيف ترسّخت المسيحيّة ثابتة وطيدة؟ بأيّ مركز قضائيّ أُلحق، حينذاك، البلد؟

 

 أولاً: التنظيم الكنسيّ

فضلاً عن اعتبار إنطاكية مركزًا إداريًّا وعسكريًّا لسورية الرومانيّة والبيزنطيّة، ومفترق طرق يقود إلى المنطقة الخلفيّة (الداخليّة)، كانت كذلك مركزًا بطريركيًّا للشرق المسيحيّ بكامله. فالمادّة 6 من مجمع نيقية (325) أقرّت لإنطاكية بالصلاحيّات والامتيازات البطريركيّة التي تعود إليها من تقليد عريق. كذلك استصوب مجمع القسطنطينيّة الأول (381) التذكير بهذه الصلاحيّات والامتيازات ذاتها والتأكيد عليها.

لقد قُسمت بطريركيّة انطاكية إداريًّا أبرشيّات أو ولايات عدّة وكلّ أبرشية قُسّمت بدورها أسقفيّات عدّة وكان هذا التنظيم خاضعًا نظريًّا لبطريرك انطاكية، لكن، في العصر البيزنطيّ، بينما أصبحت الكنيسة كنيسة الدولة، كان الإمبراطور، أغلب الأحيان، يؤلّف الملاكات ويتولّى تدبيرها. كما انّه كان ينشئ الأسقفيّات، بعضها ما يتوافق مع التقسيمات الإقليميّة للولايات، وبعضها ما كان معتبرًا مراكز فخريّة.

 أبرشيتا فينيقية، البحريّة واللبنانيّة، كانتا مرتبطتين ببطريركيّة انطاكية وتتوافقان تمامًا مع الولايتين الفينيقيّتين. ففينيقية البحريّة، وعاصمتها صور، كانت تضم اثنتي عشرة أسقفيّة، منها إحدى عشرة أسقفيّة على شاطئ البحر، والأسقفيّة الثانية عشرة – بانياس إلى الجنوب – كانت من ضمن الأراضي الداخليّة. وما يهمّنا من فينيقية اللبنانيّة، هو بعلبك وحدها من دون سواها لأنّها جزء من لبنان الذي نحن في صدد الكلام عليه.

 

 ثانياً: اندثار الوثنيّة

بعد سلم الكنيسة وبراءة ميلانو (313) التي اعلنت حريّة الديانة المسيحيّة، شنّ المرسلون الإنطاكيّون- السريان حربًا ضد أماكن العبادة الوثنيّة. فتقلّصت الوثنيّة بادئ ذي بدء من المدن، ثمّ من الأرياف. وكان معقلها الأخير في جبال لبنان وفي مدينة بعلبك (هيوبوليس) بالذات.

وفي العصر البيزنطيّ الذي نوليه اهتمامنا، كانت العبادات القديمة لا تزال تحتفظ بالكثير من المؤيّدين. فقد ذكرت المراجع وجود أحد الكهنة الوثنيّين في دوما سنة 329. وفي أرني (Arne) إلى الجنوب – الشرقيّ من بانياس زُخرف معبد وثنيّ عام 329. وعندما حاول الإمبراطور يوليانوس (361-364) إعادة الحياة إلى الوثنيّة بتجديد بناء معبد أفقا وأماكن أخرى للعبادة، لاقى ترحيبًا حارًّا في أنحاء المنطقة. وعرّض مارسيل من افامية حياته للخطر إذ باشر، نحو نهاية القرن الرابع وبداية القرن الخامس، بهدم معابد شمال فينيقية الوثنيّة، فجوبهت غيرته بشيء من المقاومة من فريق من الشعب.

في العصر نفسه، قَدمَ ابراهيم القورشي معاصر القدّيس مارون من منطقة قورش "فأقام في بلدة كبرى معروفة بغرقها في قتام الكفر". وبعث القديس يوحنا الذهبيّ الفم نحو بداية القرن الخامس بمرسلين جدد لهدي وثنيّي فينيقية، "مما أسفر عن عدد من القتلى والجرحى".

ولن نشهد أخيرًا اندثار المعاقل الأخيرة للوثنيّة إلّا بعد تجمّع واستتباب الموارنة وتنظيمهم كنيسة محليّةً، نحو نهاية القرن السابع وبداية القرن الثامن.

 

ثالثاً: الهرطقات

سلام المسيحيّة هذا لم يدوم طويلًا: فلم تكد الوثنيّة تندثر حتّى اشتعلت في انحاء الإمبراطورّية البيزنطيّة كلّها نيران حادّة من الصراعات الأهليّة والهرطقات المسيحيّة التي زرعت في العقول الفوضى وبذور الشكّ. فتضاعفت النزاعات وانشقّت المسيحيّة فرقاً وشيعاً عدّة: النسطوريّة وأنصار الطبيعة الواحدة أي المونوفيزين وأنصار المشيئة الواحدة... وبطريركية إنطاكية انقسمت قسمين: أرثوذكس (خلقيدونيّين) ومونوفيزيين (لا خلقيدونيين).

كان الشرّ كامنًا في تلافيف السياسة الدينيّة التي اتّبعها قسطنطين وخلفاؤه. إذ تدخّل الأباطرة المسيحيّون في السياسة الدينيّة، وحاولوا سنّ القوانين وفرض وجهات نظرهم في ما يتعلّق بالإيمان، جاذبين إلى بلاطهم أسقفيّة طيّعة خاضعة لتوجّهاتهم. من هنا لعبوا إزاء المسيحيّة الدور الذي اضطّلع به أسلافهم الوثنيّون إزاء ديانتهم، دور زعيم تجاه مرؤوسين.

 

  •  

منذ ما قبل أواسط القرن السادس، لم يعد لكرسيّ إنطاكية أي أهميّة بالنسبة إلى قسم كبير من كنائس فينيقية وسورية اللاخلقيدونيّة، إذ إنّ من تولّاها كان خلقيدونيًّا تابعًا للإمبراطور.

مذّاك باتت الأبواب مشرّعةً، ممّا أتاح للفاتح أن يدخل، فارسيًّا كان أم عربيًّا، ليُستقبَل محرّراً شرط أن يظهر بمظهر عدو للإمبراطور والحكومة، لعقيدتهما كما لملاكات إداراتهما المختلفة.

من الأرجح أن هذا التفسير لضعف بيزنطية هو الأكثر احتمالاً، ذاك إن فلسطين وسورية وفينيقية سقطت في أيدي بدو الحجاز في أقلّ من عشرة سنوات (632-640).

ونجاح العرب السريع هذا لا يترجم إلّا بالفوضى الداخليّة الضاربة منذ أمد بعيد. فالمونوفيزيّون مهّدوا السبيل أمام المحتلّ، من دون أن يعوا ذلك.

لكنّ الهجمات المتعاقبة التي قام بها فرسان إبن الوليد بدءًا من العام 634 لم تفلح إلّا في إخضاع الشاطئ وسهل البقاع. فقد حافظ الجبل اللبناني على إستقلاليّته وراح يستقبل كلّ الذين يلتجئون إليه طلبًا للسلام. دعوته المسكونيّة، وموقعه الجغرافيّ أمليا أن يرسّخ في ذهن من يقطنه، غازيًا كان أم مغزوًّا، حسّ الحريّة وحبّ الإستقلال، وعلى الأخصّ روح الإنفتاح.

 

 

ADMIN

وُلد المحامي جوزف أنطوان وانيس في بلدة الحدث قضاء بعبدا _ محافظة جبل لبنان _ عام 1978، وتربّى منذ طفولته على حُبّ الوطن والتضحية من أجل حريّة وسيادة واستقلال لبنان. درس الحقوق في الجامعة اللبنانية _ كلّيّة الحقوق والعلوم السياسيّة _ الفرع الثاني، وتخرج فيها حاملًا إجازة جامعيّة عام 2001، وحاز في العام 2004 دبلوم دراسات عُليا في القانون الخاصّ من جامعة الحِكمة _ بيروت. محامٍ بالاستئناف، مُنتسب إلى نقابة المحامين في بيروت، ومشارك في عدد لا يُستهان به من المؤتمرات والندوات الثقافيّة والحقوقيّة اللبنانيّة والدوليّة والمحاضرات التي تُعنى بحقوق الإنسان.

Related Posts
Comments ( 0 )
Add Comment