التبويبات الأساسية

وداع الأب جورج رحمه الأنطونيّ

  • وداع الأب جورج رحمه الأنطونيّ-0
  • وداع الأب جورج رحمه الأنطونيّ-1

ودّعت الرهبانيّة الأنطونيّة يوم الخميس 9 تشرين الثاني2017 في جو من الحزن والأسى الأب جورج رحمه الذي توفّاه الله في 7 تشرين الثاني. وذلك بشخص رئيسها العام قدس الأباتي مارون أبو جوده ومجلس المدبّرين، والرهبان والراهبات والأخوة الدارسين والمبتدئين والأهل والأصدقاء في دير مار روكس - الدكوانه. وقد مثّل رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون، النائب إبراهيم كنعان. بعد تلاوة الإنجيل ألقى سيادة المطران سمعان عطاالله كلمة الوداع الأخير جاء فيها:
"يا أبت، هب الحياة الأبديّة للذين وهبتهم لي. والحياة الأبديّة هي أن يعرفوك أنت الإله الحقّ وحدك" (يو17،2-3). " لا تحزن، أيها المتعبّد للمسيح، يا أبانا جورج، لأنك انفصلت، اليوم، عن إخوتك في الإسكيم الرهبانيّ. تشجّع في عبورك إلى الحياة الأبديّة، فالمسيح، فاديك، يدعوك إلى وليمة الحياة الأبديّة، لأنّك فلحت في كرمه المقدّس" (من وحي نصوص صلاة مرافقة الراهب).
والله، في سفر حكمته، يؤكّد أن "المؤمن، وإن تعجّله الموت، فإنه يستقرّ في الراحة" (4،7).
ذكرت هذه النصوص، ونحن نشيّع بالصلاة، مودّعين أخانا الراهب الأنطونيّ، الأب جورج عيد رحمه، في عبوره إلى الحياة الأبديّة. أبونا جورج كان شجاعًا في خياراته ومواقفه، وعليها بنى علاقاته مع الله ومع القريب؛ أبونا جورج كان باحثًا عن الحقيقة، همّه الأول في الحياة، لأنّها وحدها تقوده إلى الحياة الأبديّة. صحيح، إنّه تعاطى بالإدارة الرهبانيّة والجامعيّة، ولكن القلم والورقة كانا غرامه ( وهذا ما أكّده بنفسه في مقابلة تلفيزيونيّة).
الحياة الأبديّة هي أن يعرفوك أنت الإله الحقّ وحدك. نقطة الارتكاز في هذه الصفحة من الإنجيل، تدور حول الحوار الرائع بين يسوع الفادي وأبيه السماويّ، وموضوعُه عطاء الذات كلّيا لأبيه المحبوب منه فوق كلّ شيء. من يولد من هذا العطاء للآخر، وبخاصة لله الآب، يكون دخل منطق الحبّ بامتياز.
الحياة التي يعطيها يسوع هي حياته بالذات، التي قبلها من الآب قبل الدهور: مجّدني الآن، يا أبت، بما كان لي من المجد عندك قبل أن يكون العالم؛ فما هو لي هو لك، وما هو لك هو لي" (يو 17). والمعرفة، وسيلة الوصول إلى الحقيقة، في القاموس الكتابيّ، تُلزم الإنسان، كلّ الإنسان. فلا نعرفنّ أحدًا إلا عندما نصير واحدًا معه. بذلك فهذه المعرفة هي شراكة ووحدة واتّحاد بالآخر. المعرفة هي أن نعطي كلّ ما فينا وما عندنا، أي كلّ ما نحن، وأن نقبل الآخر بهذه الشروط عينها.
الحياة الأبديّة هي، مرّة أخرى، حصيلة حركة باتّجاهين: إنّها حياة يسوع التي يعطينا إياها، من جهة، وحياة الإنسان، الذي يستقبل حياة يسوع، من جهة أخرى. إنّها حركة أخذ وعطاء.
وأبعد من ذلك،، إن الحياة الأبديّة هي رسالة؛ إنّها رسالة يسوع بامتياز، التي تقوم على تعريف الناس على الله، على اسمه القدّوس، على أنّه هو الإله الحقّ وحده: أنا هو الرب إلهك، لا يكن لك إله غيري (أولى وصايا الله العشر).
يسوع، كلمة الله الخارجة من صمته تعالى، أعطى ذاته لأبيه، أوّلًا بكلّيتها. وأعطى، ثانيًا، تلاميذه، والعالم كلّه، الكلام الذي تبلّغه من الله أبيه (يو 17،8). هذا العطاء، لا يُقبل إلّا بفرح وحبّ. هذا العطاء حمل الذين وُهبوا له أن يعرفوا الذي أرسله، وأن يحفظوا الكلام الذي حمله إليهم، كلامَ الخلاص والحياة.
يسوع، أتمّ رسالته: لقد تمّ كلّ شيء، قال مسلّما روحه لأبيه وهو معلّق على الصليب. أكمل يسوع رسالته، وهو على الأرض، فأظهر أباه للناس: أظهرتُ اسمك للناس، ولفظ أنفاسه وارتاح.

بنى الأب جورج حياته في محيط اجتماعيّ وإنسانيّ، مسيحيّ ولبنانيّ، في محيط ملتزم إيمانيًّا ووطنيًّا. وُلد، أبونا جورج في عيناتا، في جرود البقاع الشماليّ، وتربّى في دير الأحمر، في منطقة، عُرف أهلها بالتزامهم بإيمانهم وتراثهم وثقافتهم، التزامًا عنيدًا، يلامس الإستشهاد، إذا ما لزم الأمر. ترعرع أبونا جورج، في منطقة يكوّن اهلها، إلى أيّ طائفة انتموا، خزّانا من المقاومين لا يُقهرون، فيدافعون عن إيمانهم وعن وطنهم ورسالته وحرّية أبنائه وحضارته الروحيّة والفكريّة والثقافيّة، عن ترابه وصيغة العيش الواحد بين كلّ مكوّناته، ويشكّلون أكبر تحدّ للمنادين بالأحاديّة، المنغلقة على ذاتها والرافضة لأيّ حوار عقلانيّ، يبحث عن وسائل تبنّي الأخوّة الشاملة والسلام الحقيقيّ، اللذين لا يقومان إلّا على الإيمان بالحقّ وعلى حقّ الاختلاف عن الآخر، وقبولِه كما هو، وعلى المحبّة المجّانيّة.
إنطلاقًا من هذا البعد الإنسانيّ تُقسم حياة أبينا جورج، ألراقد الآن على رجاء القيامة، إلى قسمين. يقوم الأوّل على خيار، أو اختيار للحياة الرهبانيّة، منذ أن سمع صوت الرب، وكانت ما تزال سنوات عمره لا تتخطّى الحادية عشرة، كما أخبر هو بنفسه. وعندما قال له المسؤول عن الدعوات في الرهبنة: من الأفضل لك أن تنتظر سنة أخرى تحت جوانح والديك وتلتحق، السنة القادمة، بطالبيّة الرهبنة، أجابه الطفل جورج: إذا كنتُ لا ألتحق بطالبيّة الرهبنة، هذه السنة، فلا تُتعب نفسك السنة القادمة. وهكذا أجبر المسؤول عن الدعوات أن يقبله في تلك السنة. اختار جورج الحياة الرهبانيّة دون أن يعرف ماهيّتها. ولكنه ورث محبّة الرهبنة عن بيئته، وبخاصة عن والديه، اللذين طبعا في نفسه مفهوم الرهبنة مكانًا لقداسة النفس وخلاصه الشخصيّ؛ جورج، اختار الرهبنة دون أن يُدرك كم تتطلّب حياتها من تجرّد كامل وتضحية مستمرّة ونكران ذات، من جهة، ومن جهود تُبذل لتحصيل المعرفة والثقافة والعلم، من جهة أخرى. لقد استرخص كلّ الجهود المطلوبة وانكبّ على تحصيل العلم فنال شهادات عالية من جامعات محترمة في الوطن وفي الخارج، في حقول الفلسفة واللاهوت والتاريخ وتاريخ الديانات، فعمل ليس فقط في حقل الإدارة وإنّما في حقل التعليم والتأليف والبرامج، على أنواعها، في وسائل الإعلام كافة، وفي حقول الإجتماع والعمل الراعويّ والنشاطات الثقافيّة والتربويّة: كلّ ذلك من أجل تقديس الذات وتمجيد الله تسبيحًا ونقلًا للرسالة السامية إلى الناس أجمعين.
أما القسم الثاني من حياته فصرفه في الكتابة والنشر والوعظ والبرامج الثقافيّة والدينيّة في الإعلام المسموع والمكتوب والمرئيّ. إصداراته، كوّنت مكتبة جامعة في حّد ذاتها. فيها تجد آراء صائبة وأفكارا غنيّة، تملأ آلاف الصفحات في التاريخ والفلسفة واللاهوت والإجتماع والأدب المشرقيّ والديانات القديمة وعلومها...
نحن كلّنا نفتقدك، يا بونا جورج. ولكن الله، الذي دعاك إلى الرهبنة فلبّيت دعوته وأحببته من كلّ قلبك، وعملت جاهدا لتُظهر اسمه للناس، هو يدعوك الآن لتدخل دار راحته الأبدية، يمزّق صكّ خطاياك، ويمجّدك بالمجد الذي أعدّه للذين يحبوّنه، وأنت منهم، وكلّنا يعرف كم تالّمت طوال خدمتك الرهبانيّة والكهنوتيّة، مشركًا آلامك مع آلام سيّدك ومخلّصنا يسوع المسيح، فداء للعالم، ولا سيّما لوطنك لبنان الضائع والجريح والمــُعاني على رجاء الخلاص وبناء السلام للعيش في كرامة. إنك أدّيت قسطك للعلى، يا جورج، فارقد في سلام الرب واجلس على مائدة الحمل الإلهيّ، "حيث لا وجع ولا ألم ولا تنهّد، بل حياة لا نهاية لها". هكذا يملؤك سلامًا وأمانا ويورثك ملكوته السماويّ.
ختامًا، يطيب لي أن أسوق التعازي الحارة لقدس أبينا العام ومجلسه العام الموقّر، مصلّيا كي يعوّض الله على الأم الرهبانيّة بدعوات مقدّسة ، ولإخوته وعيالهم الكريمة ولعائلات شقيقتيه، المرحومة مها والسيّدة ساميا وعيالهنّ وجميع أقاربه وأهله والأصدقاء في البقاع الشماليّ، في كلّ الوطن وفي بلدان الإنتشار. للرب المجد وعلينا رحمته إلى الأبد، آمين.

editor1

وُلد المحامي جوزف أنطوان وانيس في بلدة الحدث قضاء بعبدا _ محافظة جبل لبنان _ عام 1978، وتربّى منذ طفولته على حُبّ الوطن والتضحية من أجل حريّة وسيادة واستقلال لبنان. درس الحقوق في الجامعة اللبنانية _ كلّيّة الحقوق والعلوم السياسيّة _ الفرع الثاني، وتخرج فيها حاملًا إجازة جامعيّة عام 2001، وحاز في العام 2004 دبلوم دراسات عُليا في القانون الخاصّ من جامعة الحِكمة _ بيروت. محامٍ بالاستئناف، مُنتسب إلى نقابة المحامين في بيروت، ومشارك في عدد لا يُستهان به من المؤتمرات والندوات الثقافيّة والحقوقيّة اللبنانيّة والدوليّة والمحاضرات التي تُعنى بحقوق الإنسان.

Related Posts
Comments ( 0 )
Add Comment