الموسيقار ملحم بركات
ملحم بركات
بقلم : الدكتور جورج شبلي
الموهبة التي أَنهَضَ الله سكّانها، كدنا أن نشاهدَ اليأسَ فيها ينطق، والرّجاءَ فيها يقصُر، فكأنّما عمرانها يُطوى وجوّها عريان وجوهرها حصى. فبعدَ الكِبار، صارت ضيّقة الدِّيار ودامت حسراتُها فما عادت تُؤلَف وتُستطاب، حتى هبَّ الشّوق إليها وقَرُبَ مزارُ واحدهم منها، فاطمأنّت به دارُها. إنه ملحم بركات الذي لم يعد ماء الموهبة معه طيناً، ولا أسورتها من غبار.
لقد كثُر حنين ملحم بركات للّذين كان لهم السَّبق الى الأصول، حتى لَنجدَ عهوداً بأكملها في بواكير عناوينه. وقد سرى الحنين في شريان إنتاجه، فقلَّده من المَنعة ما أحبَّ أن يصفوه به : وِفادة الأصول. وذلك، بالرَّغم من كون هذه الأصول مهدَّدةً برفض المقلِّدين والنُسّاخ أصحاب البِدَع التي لا يقوى العَروفُ على تردادها، ولم يَحفظ منها شيئاً. من هنا، فمؤرِّخو الموسيقى مطمئنّون الى أنّ ما بقي من الأصول لم يخمد أثره، ويكفي العودة الى نتاج ملحم بركات حتى يكون لدينا شاهد متفرِّد، وصورة مماثِلة تمام المماثَلة لآثار المُستَفيضي الشّهرة في الموسيقى والغناء في غابر الماضي.
نستمع الى ملحم، فلا نستطيع إثباتَ أنّ ما نسمع هو من هذا الزمان، أما ما نقدر عليه فهو المشاورة بين ملحم وبين أشياخ المَغنى في البيانات الموسيقية، وهذا موضع اتّفاق. وصوته الذي وفّى الأصول عهدها وميثاقها، لم يكن ممّا أُنشِئ ليستريح عنده نَفَس السّامع، بل ليدفع عادية المُشرِكين بأنّ الإرث بِخَير، هذا الذي ما فتئ يسأل ملحم كلّما غنّى: أتزورُني أم أزورُك؟
نستمع الى ملحم، فيَصل صوته الذي يجيد التغنّي بالعواطف الى قرارة نفوسنا، يملؤها روحاً ويقيناً، ويستثير في صدورنا الدفائن من الأشواق والحنين. فهو إذ يجيد برقيق إحساسه، لا يتدارك لظى الحبّ بالإخفاء، بل يؤانسه ليحوّل صوته الحبَّ الى عشق، والعشقُ في رسالة صوته أَغلَب. فهذا الكَلِفُ بالرقّة المتبدّية بخفيف الإيقاعات، وإن اختلط به قلب مُعابٌ بالتفتُّت، قد ضمّه وإيّاها أوثق حِبال الإنس، ففاض بأرقِّ أنفاس الوجدان، هذه التي انتقلت بالعدوى الى سامعيه فوقعت منهم موقع اللذة والمتعة.
ملحم بركات الفنّان الموهوب، رَمَت به الأقدارُ الدُّخلاء على الموسيقى والغناء، من حيث لا يدرون. فهؤلاء الردّادون، إن أقبلوا على الفنّ بَهَّته إقبالُهم، وإن نزحوا عنه عاد إليه البهاءُ من صفاته. أمّا ملحم، فقد قلب عادات العصر من إطارها الضيّق، ولم يكتفِ بإعادة الإعتبار الى الأنواع الشرقية التي ثابر عليها الأقدمون وبسطوا فيها نجواهم، لكنه أدخل معها صِيَغاً تتصّل بأساليب الحداثة في الغرب، لتصبح حال الفنّ أحوالاً، واسمه موافقاً سماته العالمية. لقد طرّز ملحم التقليد بالتجديد، ودوّن بعلامات الموسيقى أشهرَ ما حفظته خزانة الموسيقى في الشّرق، فاستطابته الحناجر الشعبية وكرَّت بترداده.
لقد اعتنى ملحم بمقدّماته الموسيقية، فأتت من الأغنيات كَمَغرس الغصن من قَدّ حسناء. فهو يتّخذ مقطع المقدّمة مُطعَّماً بتسلسل الحركات الإيقاعية التي تتدرّج حتى تسليم اللّازمة، ثم يتنفّس اللّحن في المقاطع فتَستجمع الأغنية ذاتها لتُسَمّى، ومن دون غُلُوّ، مُغَنَّاةً فنيّة. وهذه انطلاقة حديثة في جوّ السرعة التأليفية المهلِّلة لِصَخَب الإيقاع غير المتأدِّب مع الأنغام، وكأن السرعة تخاف الهلاك في فراقه. وعلى عكس هذا، فقد تدلَّلت الألحان مع ملحم، حتى انّها كانت تَهدي الكلمات إن ضَلَّت وترويها إن ظمئَت. وقد صادفت قبولاً في ابتكارها وتجديد موضوعها وغرائب عوالمها، فهي، وإن كانت شعبية نهلها ملحم من أوساط العامة، غير أنه جبلها بعبقرية ونبوغ وحَنَق، ليصبح بينها وبين الناس وُلوعٌ نادر.
إنّ صوت ملحم السّاطع يبني النّبرات وكأنه ذاهب الى تزيين عروس. فهو مُجيدٌ في تكييف غلائل صوته مع ثغور النغمات، ينتقل بخفّة الظلّ من الرّقيق في القصيد الى النّشيد، ومن الموزون في الألحان الى المُقَطَّع، لصالح الإنسجام بين المفاصل والموقَّعات. وهذا التنوّع في مرج الأداء لم يكن رائجاً لصعوبته، إذ يستوجب استيفاءَ النُّغُم الطِّوال وإصابةَ أجناس الإيقاع واجتلاءَ مواقع النّبرات، ما لا يستطيعه إلاّ الحاذق المُتقِن. وملحم بركات خطا في الإتقان وِسْعةً لم يَحظَ بها غيره، وكان له تجديد نوعيّ بإطلاقه عناصر غنائية بدأ يعرف فيها النَّغم بُعداً جمالياً، ساهم مع الكلمة، وبتناسق تام بينهما، على خلق كيان فنيّ حديث متين الصياغة وصعب الارتقاء اليه، ما جعله من الفرائد في هذا المحور، كما جاء على ألسنة بعض أرباب هذه الصناعة.
لقد غنّى ملحم بركات بنظام صوتي مقامي، فأثار حماس الناس وإدهاشهم، هؤلاء الذين أحسّته أنفسهم فنصّبوه كبير مُغَنّي عصره، فلم يسعَ بالتالي الى مجاراة منافسيه للبلوغ بالغناء الى مرحلة الإبداع التي كان وكيلها الحصري. إنّ الجواب على شهرة بركات ليس غامضاً، فهي تُقاس بالنشوة التي تحدثها في النفوس التي تتلقّاه بالمَجامر والطِّيب، وكذلك بالتكيّف مع مزاج الناس وأذواقهم، وباحتفاظها بالصّبغة التي ميّزتها منذ نشأتها، كما بتبنّيها عناصر المحسّنات التي لطالما ساعدت الصوت على إظهار كنوزه الخفيّة.
لقد مُنيَ بعض مدارس الغناء المتعاقبة، وإن المحترفة، بتشويهات بعد أن لمعت أسماء مُنشئيها لمعاناً باهراً، إن بانحرافها عن تركتها، أو بتقتيرها في الإنتاج. وبالرغم من أنّ التأليف الموسيقي هو " نَقرٌ في صخر "، كما يقول اسحق الموصلي، غير أنّ ملحم بركات العالِم بالجمالية الموسيقية، قد رفع قوالبه التأليفية الى مرتبة الفنّ المُكتَمل، فأسّس بذلك تيّاراً ليس له صلة بعامل اللحظة والظَّرف، فلا يندثر بفعل الزمن أو التغيّر، لأنّ حيويّته ليست من خارجه، بل من فيض المطبوعين به على الدّوام، جيلاً بعد جيل.
وبعد، إنّ الفنّ الغنائي ما ضاءَ له نهار، لو لم يكن بينه وبين ملحم زمان، كما كان بين المِسك والعَنبر، وقد نازعَ الفنَّ الهوى بِشَوق اليه فلم يملك دموعه من الوَلَه. فملحم أَخلصُ أحبّاء الفنّ وأَعزُّهم، ترك بنأيهِ في خدِّ الفنّ من قَطر الدَّمع ندوباً، فرثاه الفنُّ عن صفة وَجدِه بِخَطِّه:
كأَنِّيَ لم أُفجَع بِفرقَةِ صاحبٍ ولا غابَ عن عيني سِواكَ حبيبُ