اعترافات تحت وطأة التعذيب - مخالفة شرعة حقوق الانسان - بطلان التحقيقات الاولية
اعتراف المتهم بعد تعرضه ابان استجوابه الأولي إلى ممارسات عنيفة من قبل رجال الضابطة العدلية. مخالفة شرعة حقوق الإنسان. إهمال التحقيقات الأولية وعدم اعتبار الاعتراف في مثل هذه الظروف وسيلة جدية من وسائل الإثبات.
حيث من الثابت في الأوراق، حتى من اعتراف المتهم… بالذات أمام المحكمة، أنه ضبطت بحوزة هذا الأخير كمية من مادة الكوكايين موزعة في عدة مظاريف بلغت زنتها قائمة، مع الورق، اثنتان وخمسون غراماً.
وحيث أنه لدى استجواب المتهم المذكور من قبل رجال مكتب المخدرات، بموجب المحضر رقم… جاء في افادته بأنه بدأ بترويج الكوكايين منذ سنتين، واشترى هذه المادة من المتهم بعد أن طلب الأخير على هاتفه الخليوي ذات الرقم… فحضر إليه في سيارته… ودفع له ثمن الغرام من الكوكايين خمساً وثلاثين دولاراً أميركياً، مضيفاً ودائماً على ذمة افادته الأولية، بأنه كان يبيع الغرام من هذه المادة بمبلغ يتراوح بين الخمسين والخمسة والستين دولاراً من الأظناء الستة المذكورين… وقد حدد عناوينهم في المحضر الأولي، وبانه… كان يتعاطى مادة الكوكايين هذه بمعدل غرامين في الأسبوع.
وحيث أن المتهم… تراجع لدى قاضي التحقيق وأمام المحكمة عن افادته الأولي لجهة اقدامه على ترويج مادة الكوكايين، مصرحاً بأن تلك الافادة قد انتزعت منه تحت وطأة الضرب والتعذيب، مؤكداً على واقعة تعاطيه مادة الكوكايين المضبوطة بحوزته والتي يستهلك منها غراماً واحداً كل نهار.
وحيث ترى المحكمة، على ضوء ما توفر لديها من واقعات ومستندات وأقوال التوقف عندما أدلى به المتهم… لهذه الجهة، لمعرفة مدى صحة ومدى قانونية أقواله الأولية.
وحيث تجب الملاحظة بادئ ذي بدء ان المادة 47/أ. م. ج. تنص على أنه يمكن للمدعي العام أثناء قيامه بالوظيفة، أن يعهد إلى أحد رؤساء مخافر الشرطة والدرك بقسم من الأعمال التي هي من صلاحيته إذا رأى ضرورة لذلك عدا استجواب المدعى عليه.
وحيث يقتضي، على ضوء هذا النص اعتبار الاستجواب الذي أخضع له المتهم… من قبل رجال مكتب مكافحة المخدرات، ولو بإذن من النيابة العامة، مخالفاً للقانون في نص المادة 47/أ.م.ج. الآنفة الذكر وغير جدير بالتالي بالتوقف عند ما ورد فيه.
وحيث أن كان القرار الاتهامي، مضافاً إلى ما ورد في شهادة أحد موقعي المحضر الأولي أمام المحكمة بعد اليمين، قد حاولا، في القضية الراهنة، تغطية بعض عيوب التحقيق الأولي، فيبقى التساؤل فيما إذا كان المتهم… قد أخضع إبان استجوابه الأولي لممارسات عنيفة من قبل رجل الضابطة العدلية، أرغمته على التصريح بما صرح به في الافادة التي دونت على لسانه، كما يزعم هو نفسه في التصريحين اللذين أدلى بهما في التحقيق الابتدائي وأمام المحكمة.
وحيث أن ما لفت انتباه المحكمة في هذا الاتجاه هو ما ورد في التقرير الطبي الصادر عن الطبيب الشرعي… بتاريخ… أي على أثر استجواب المتهم… من أن هذا الأخير مصاب:
1_ بكدمات رضية في مؤخرة الكتفين وباقي العنق.
2 _ بجروح رضية سطحية مقشرة مندملة حديثاً على مدار المعصم.
3 _ بجروح رضية سطحية مندملة في ظاهر اصابع الرجلين وبكدمات رضية في أسفل القدمين.
4 _ كما يشكو الموقوف من رضوض في الرأس زالت معالمها، وان هذه الإصابات، وفق التقرير المشار إليه ناتجة عن تعرض الموقوف… للعنف والصدم بأجسام صلبة.
كما أن ما يلفت المحكمة بصورة أخص هو ما ورد في تقرير طبيب السجن المقدم… بتاريخ… والذي يتوافق بمجمله مع تقرير الدكتور…
وحيث أن ما ورد في افادة الظنين… لدى قاضي التحقيق وأمام المحكمة من اخضاعهما، ابان افادتهما الأوليتين، وقد ورد فيهما قيامهما بتعاطي مادة الكوكايين وشراءهما تلك المادة من المتهم… لعمليات ضرب وتعذيب وما جاء أمام المحكمة في افادة الظنين… من أن ما ذكره في التحقيق الأولي لجهة محاولة المتهم المذكور إيفاءه دين كان له، أي الظنين بذمته، كمية صغيرة من الكوكايين، لا صحة له وقد انتزع منه بالإيحاء والضغط والتهديد (صفحة 10- 11 من محضر المحاكمة). وما ورد في إفادة الأظناء… أمام المحكمة (صفحة 11- 12 من المحضر)، من أنهما شاهدا المتهم… في مخفر… «وهو في وضع الميت ومحمولاً من شخصين من كثرة الضرب» ما تعزز كلها ما ورد بصورة علمية جازمة في التقريرين الظنين المشار إليهما أعلاه.
وحيث بالإضافة إلى كل ذلك، أن ما يلقي ظلالاً من الشكوى حول صحة ما ورد في افادة المتهم… في التحقيق الأولي، هو ما دون على لسان الأخير في هذه الافادة من أنه كان يتصل بالمتهم… على رقمه… ليوافيه الأخير بالمخدرات التي كان ينقلها إليه في سيارته… فيما تبين من الافادة الرسمية الصادرة عن شركة سيليس للهاتف الخليوي المبرزة صورتها في الملف، ومن أقوال شهود الدفاع أمام المحكمة بعد اليمين، ان الرقم الخليوي المذكور آنفاً لا يعود للمتهم… وان هذا الأخير بالإضافة إلى ذلك لا يملك أي خط هاتفي أو أية سيارة.
وحيث أن المحكمة، على ضوء التقارير الطبية والأقوال والوثائق، الآنفة الذكر، قد توفرت لديها قناعة كافية بأن المتهم… قد أعطى افادته الأولية تحت وطأة التهديد، والضرب، والتعذيب.
وحيث أن نظام الاقتناع الشخصي الذي يندرج تحت لوائه القانون الجزائي في لبنان، لا يفيد القاضي بأية مقاييس موضوعية، بل يعود لهذا الأخير أن يحكم في ضوء الأدلة المعروضة بما يعتقده صائباً ومتوافقاً مع الحقيقة، وما يرتاح إليه ضميره.
وحيث ان كان للقاضي أن يلجأ أحياناً إلى الاعتراف كوسيلة جدية من وسائل الاثبات، فعلى شرط أن يكون هذا الاعتراف قد حصل طوعاً، وكان فيه المعترف مختاراً وحراً فيما يقول، لا مكرهاً عليه ولا موحى له به، ولا صادراً بالتالي على أثر ضغط أو إكراه، كائناً ما كان قدره، فكيف إذا كان هذا الضغط قد أدى، كما هو الحال في القضية الراهنة، إلى أعمال عنفية أدت بدورها إلى كدمات ورضوض وجروح وانهاك جسدي ونفسي، لحقت جميعها بالمتهم المعترف أو تحدث عنها بإسهاب التقريران الطبيان المحكى عنهما.
جنايات جبل لبنان ـ بتاريخ 14/5/1998 الرئيس جوزف غمرون والمستشاران أحمد حمدان وسامي صدقي.
(منشور في: اصول محاكمات جزائية - أدلة - إثبات - المصنف في القضايا الجزائية للقاضي عفيف شمس الدين عام 1998 ص 79)