تدشين القصر البلدي في الحدث
بيت جامع
عصام فؤاد الخوري في هوى لبنان
كلمة في احتفال تدشين القصر البلدي في الحدث في 25/7/2009
للحدث في قلبي حبّ مقيمٌ، ولأُسَرها، جمعاء، تقديري العميم، أنا ابنها الحافظ لها ذماماً وجميلاً، أحمل لها ولهم في صدري من العواطف أنبلها وأخلصها، عواطف لا تقوى الأيام على إزالتها لأنها دخلت إلى حنايا القلب وتغلغلت في مجاري الحياة.
أُحيّي هذه البقعة الطيّبة من جبل لبنان الأشمّ ... أرض الحدث المباركة.
لا أطأ أرضها، مرّة، إلا وتثور في نفسي نشوة من الطّرب تقصر عنها نشوة الشعراء ... هؤلاء وحدهم يُجيدون التعبير عنها حيث يَجدون صيغاً شائقةً يسكبون بها عاطفتهم سحراً حلالاً؛ ومعهم أردّد في حبّ الحدث:
نقّل فؤادك حيث شئتَ من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأوّل منزل
* * *
أيها الأحباء، قد تكون بلدتنا، الحدث، مدينة صغيرة الحجم، قياسياً على سواها من مدن لبنان، ولكنها كبيرة القلب. قلب شعبها خَبرناه زمن الشدائد، فإذا به يلتهب حماسة لصيانة الحقّ والكرامة، تحقيقاً لقول الشاعر :
تَدرَّعوا العقل جلباناً فإن حَميت نارُ الوَغى خلتُهم فيها مَجانينا
إذا ادَّعوا جاءت الدنيا مُصدّقة وإن دَعوا قالت الأيام آمينا
من دواعي الإعتزاز أن أقف اليوم خطيباً، في هذه المناسبة الجليلة، فهناءةُ روحي فوق كل هناء... لا لأنعم برؤية هذا القصر الجميل وأشهد على إنجاز هذا المشروع الذي راود فكر الكثيرين من أهلنا، من قبل، وأنه لم يبقَ فكرة عندهم، أو حلماً، بل أصبح حقيقة ملموسة، بل أيضاً، لأؤدّي واجباً... إذ لا يجوز أن نترك أحداً من أصحاب الفضل إلا ونذكره بفضله ليبقى مثالاً يُحتذى لخدمة بلده.
يزيدني اعتزازاً أن يرعى هذا الإحتفال فخامة العماد ميشال سليمان، رئيس للبلاد، يصحّ فيه قول الشاعر:
نظمَ الجموع على اختلاف ميولها فتآلفت في حبّه آحادا
وأن يتمثّل، فخامته، بوزير ألمعي صادق ... قد وفى بموعده حين خانت البشر إذا كان الجمال هو هذه القوة الغامضة التي تُطالعنا في منظر ما، قتُثير فينا انفعالاً يَستولي على النفس ويخلق فيها حالة من النشوة والارتياح... فأنا، الساعة، بإزاء هذا المبنى المُنيف، غارق في دنيا من الجمالات، ومغمورة نفسي بكل طيّب من تلك الأحاسيس.
فلا تلمني، عزيزي أنطوان، كرّم الله وجهك، وقد دعوتني، مشكوراً لأن أقول كلمة لمناسبة تدشين هذا المبنى، إذا وقفتُ أمام حُسُنه صامتاً... "فالصمتُ في حَرَم الجمال جمالُ".
وأتابع مع نزار قباني:
"كلماتنا في الحب...تقتل حبّنا إن الحروف تموت حين تقال"
* * *
أيها الإخوة والأخوات، الشعر العاميّ بَرَعَ فيه كثيرون من أهلنا في الحدث، دعوني على طريقتهم أقول، وبكلمات مُستوحاة من شعر للقاضي الأديب طربيه رحمه:
يا ابن الكرم، قلّتلّي حكي، إنت الحكم... طلبك غالي... رَتّب عليّ دَيْن، بسّ بدّي حروف ما انمدّت عليها، بعد، إيدين
بالحلم ما بتشوفها العينين،
إشهقلها، إهرب من المألوف؛
ولوين؟ عَآخرحدودالوينّ
بدّي حروف ... يكون إلها شفاف
متل النسيم تهبّ ما تنشاف.
حروف من مرمر وياقوت ... تنقال، تْضلْ. والحبّ مش مُمكن يموت.
* * *
حضرة رئيس وأعضاء مجلس بلدية الحدث،
إن المظهر الماديّ لهذا المبنى على أبّهته وفخامته، يتضاءل أمام مظهر آخر، هو قيمة العمل الذي قمتم به والهدف الذي تَصبون إليه، ألا وهو تعزيز مبدأ التعاون لسعادة الجميع ومواكبة حركتَي التطوّر والتقدّم على غير صعيد، الإجتماعي منه والديموغرافي والعلمي والتكنولوجي.
زدتُ ابتهاجاً بهذا المبنى واقتناعاً بالجهد المبذول، عندما وَلَجتُه، وتفقّدتُ ردهاته الفسيحة وفاعاته الرّحبة، واطّلعتُ على الوجهات المعدّة لها، وهي عديدةٌ ووجيهة. منها الإداريّ والثقافيّ والإجتماعيّ والرياضيّ والمدنيّ... غايات كلُّها ضرورية، نافعة وتعود على المجموع بالخير العميم.
أيّها السيّدات والسادة،
ليس غير الفنّ يجسّد الجمال ويُعطيه شكلاً نفهمه به.
يكون الفنّ رائعاً عندما تعمل اليد والرأس والقلب... ثلاثتهم رأيتهم يعملون معاً على إنشاء هذا البيت البلديّ، وهو في منتهى الجمال.
سأل " سقراط " أباه، وكان هذا الأب مثّالاً بارعاً، كيف يصنع بإزميله المعجزات؟ أجابه قائلاً: عندما أُريد أن أنحت من الصخر أسداً، فإني أبصر الأسد كامناً في الصخر، وأحسُّ به رابضاً هناك تحت السطح ينتظرني أن أُطلق سراحه...
مُصمّمو هذا الأثر الرائع ومُمنفّذوه إخالهم ساروا على خُطى ذلك المثّال المبدع، والد "سقراط"، أدّوا عملهم بعقلهم وجنانهم، وقرأوا، جيّداً تاريخ "الحدث" الأثيل، ونظروا إلى الحاضر والمستقبل وما يَعتمر قلوب أجيالها الجديدة من طموح ورأوا إلى تاريخ رجالاتها الكبار: رجال علم وفكر، أهل برّ وتقوى، أعلام في الصحافة والقانون، أدباء وشعراء، إداريّون وسياسيّون أفذاذ، روّاد في العمل الإجتماعيّ الوطنيّ، منارات هداية في الدين والدنيا.
كانوا مصابيح علم يُستضاء بهاكانوا الهُداة إذا أبناؤها تاهوا
* * *
مشروعٌ طموحٌ قال بعضهم في وقت من الأوقات، ومستحيل التنفيذ قال بعضٌ آخر، لعلّهم قد فاتهم أمران، ولست لأشكّ بطيب نوايا أحد منهم:
الأمر الأوّل أن الطموح هو غذاء الروح وشافي الجروح وباني الصروح والدافع للحيوية المتدفّقة في معارج الجهاد. ليست هذه الدنيا طوعَ اليائسين، إنّها محطّ الرجال الطامحين المُبدعين. وقديماً قيل :
شباب قنعٌ لا خير فيهموبوركَ بالشباب الطامحينا
أمّا الأمر الثاني الذي فات هؤلاء، فإنّ سرّ النجاح يكمُن في الثبات على الغاية وفي التصميم والمثابرة على العمل. ومن الحكَم الصينيّة :
"لا تخشَ التقدُّم البطيء ... ولكن إحذر أن تقف جامداً".
إلى تلك المزايا أضف الأخلاق، اللّطف والفضيلة.
"اللطف لا يكلّف شيئاً ولكنّه يشتري كل شيء".
أما الفضيلة فثمرةٌ مُرَّة؛ لكنّك إذا مضغتها جيّداً ستشعر بحلاوتها.
أيّها الأصدقاء، ليس هناك ثمن للفضيلة سوى الفضيلة ذاتها.
عزيزي الدكتور أنطوان كرم، حسبُك، وأنت الحالي بالكثير من اللطف والفضيلة أن يكون هذا هو أجرُك وأن يكون هذا جزاؤك عند الناس والله ... إنّه لك ممّا لك...
* * *
أيّها الإخوة،
صحيحٌ المثل القائل البناء الجميل ليس معبداً... ولكنّ البناء الجميل يصبح بقداسة المعبد متى صلُح قاطنوه وحَسُنَت نواياهم وسلمت تصرفاتهم."وشو نفع البيوت بلا ناس".
والبيت للإنسان كالإطار للصورة ... يَحسُنُ بالإطار أن يكون جميلاً، ويبلغُ الجمال ذروته متى حَسن الإطار وحسنت الصورة التي يحيط بها.
عزيزي الدكتور أنطوان، باني هذا البيت بثقة ومحبّة أبناء الحدث إنّك وإيّاهم الصورة والبناء هو الإطار وكلاكما جميلٌ. سَلمَت أيدي من عاونك من أعضاء مجالس البلدية ومن إداريّين وفنّيين وعافى من وقف إلى جانبك لإتمام هذا الإنجاز الجليل.
وألف مبروك لأهلي الحدث بيتهم الجديد، بيت يليق بتاريخ الحدث الأثيل ويذكّر بمآثر الجدود والآباء الميامين، هو بيت للجميع، يجمعُ ولا يفرّق، يؤالف الشمل ويتّسع لكل أبنائه، أيّاً كانوا، أينما كانوا. وكل واحد منهم ينادي الآخر:
بيتي أنا بيتك، خلّينا سوى...بيت نظيف وبعيد المدا
خَيّي قرّب لحدّي...وُجُودك دواما حدا يبعدك عنّي ما حدا
الحدث التي نريدها من خلال هذا البيت الجامع، نراها على صورة لبنان الجدود والآباء، لبنان الشعب الطيّب، النقيّ، المبدع الخلّاق، يَختَلف على شؤون، سرعان ما يعود يأتلف عليها وينضمّ قلباً واحداً وعاطفة واحدة في لبنان واحد، يُقدّسون ترابه، يَذودون، عن حياضه، يرفعون علمه وينشدون بصوت واحد، صوت ذكيّ صادق، كلنا للوطن للعلى للعلم.
أيها الحفل الكريم،
ومن وَحي هذا اللقاء الزاخر بالمحبّة والحماس، وفي أجواء هذا الصرح الرابض كالصخرة على سفوح تلال الحدث، يرصّع كالنجمة جبينها الأبيَّ، يحلو لنا أن نتلو فعل إيمان بديمومة الحدث وتَشبّث أهلها بها وبكل ذروة من ترابها، وأن نُردّد مع الرحابنة:
لا الكلمة انزاحتولا الصخر انزاح
ونحنَ رَح نبقى هونمش رَح نترك من هَون
البداية والنهاية والعمر كُله هَون