عقد اجتماعيّ جديد
" ولد الإنسان حرًّا، بيد أنّه أصبح مكبّلًا بالأغلال، فكيف حصل التغيير؟"
(جان جاك روسو)
إنّ نظام الحكم في أيّ بلد يعتمد على تعاقد اجتماعيّ بين أفراده والفئات والطبقات المختلفة للتعايش فيما بينها من ناحية، ومن ناحية أخرى بين أفراد الشعب بشكل عامّ ونظام الحكم على اختلاف نوعه، ويعتمد استقرار النظام في بلد ما على عدّة عوامل من بينها استمرار العلّة الأساسيّة لوجود هذا النظام أو تجديدها بتطوير هذا التعاقد وربطه بعوامل جديدة تدعم استمراره.
إنّ الحالة المزرية الّتي وصل إليها الوضع في لبنان، على الصُّعُد السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة كافّةً، حتّمت علينا القول بأنّ لبنان أصبح في حاجة إلى صياغة عقد اجتماعيّ جديد من شأنه أن يغيّر طبيعة ووظائف الدولة، من الدولة الراعية إلى الدولة الشريكة للإسهام في بناء لبنان الجديد الّذي نطمح وتطمح الفئات والهيئات اللبنانيّة جميعها الوصول إليه.
فما هو العقد الاجتماعيّ بمفهومه العامّ؟ (أوّلًا)، وما هو العقد الاجتماعيّ المعمول به في لبنان؟ (ثانيًا)، وماذا يشمل العقد الاجتماعيّ الجديد الّذي ندعو ونصبو إليه؟ (ثالثًا).
أوّلًا: إنّ العقد الاجتماعيّ كما يعرِّفه الخبراء والمحلِّلون السياسيّون هو محاولة إعداد صياغة لكيفيّة ممارسة السلطة بالتوافق والتفاهم بين القوى الممثِّلة للشعب والسلطة من خلال دساتير وقوانين وآليات تُنظِّم العلاقة بين الحاكم والمحكوم.
وقد بلغت الصيغة للعقد الاجتماعيّ في الفكر السياسيّ الغربيّ ذروتها على يد الفيلسوف الفرنسيّ الشهير جان جاك روسو (1712- 1778) الّذي استهلّ مؤلّفه الشهير "العقد الاجتماعيّ" بسؤال : " " ولد الإنسان حرًّا، بيد أنّه أصبح مكبّلًا بالأغلال، فكيف حصل التغيير؟". وقد أجاب عن هذا السؤال بأنّ الجماعة السياسيّة لا تستطيع الإتّحاد إلّا بالاتّفاق الحرّ بين أفرادها للعيش معًا. وتحدَّث عن فصل السلطات، إذ تُنفّذ السلطة التنفيذيّة ما تمليه عليها السلطة التشريعيّة، فالشعب هو واهب السلطات، وهو القادر على تغيير المسؤولين وقتما يشاء ويعدِّل سياستها بأيّ شكل يشاء بحسب الدستور الّذي يعبِّر عن حقيقة التعاقد الّذي يتمّ بين أفراد الشعب وهذه السلطات الّتي يفرزها، حيث تُعَدّ نظريّة العقد الاجتماعيّ الّتي أبدعها (جان جاك روسو) الأبرز في حدوث التطوّر الأكبر في فلسفة الحقّ، فقد أسهمت بشكل كبير في بروز الديمقراطيّة، وفي إعطاء السلطة للشعب بدلًا من إعطائها للفرد المستبدّ.
فالعقد الاجتماعيّ هو الأساس الّذي قام عليه المجتمع السياسيّ المنظَّم، وقد تمَّ إبرام هذا العقد بين الأفراد على أساس أنّ لهم صفتين، صفة كأفراد طبيعيّين، وصفة كأفراد في الجماعة السياسيّة الجديدة. ذلك أنّ الأفراد بحثوا عن صيغة للمجتمع الّذي يحفظ حقوقهم ويحميها، فوجدوا أنّ ذلك يتحقّق بإتّحاد كلّ فرد في الجماعة. فإذا أطاع الفرد إرادة هذه الجماعة، لا يطيع إلّا نفسه، ويبقى حرًّا كما كان.
بمعنى أنّ الأفراد، إذ يتنازلون عن كامل حقوقهم لصالح الجماعة، يصبحون هكذا في وضع متساوٍ. وعلى هذا الأساس، فإنّ كلّ فرد يعطي حقوقه للجماعة وليس لشخص معيّن، فيضع بذلك قوّته وشخصه تحت الإدارة السياسيّة للإرادة العامّة.
ثانيًا: إنّ العقد الاجتماعيّ في لبنان اعتمد في جوهره على مقايضة المواطنين حرّيّتهم السياسيّة مقابل تلقِّي خدمات معيّنة، كالتوظيف في المؤسّسات الحكوميّة والحصول على الرعاية الصحيّة العامّة والتعليم. وقد سمح هذا العقد بالقهر وقمع حقوق الإنسان وتطلُّعات المواطنين، وأدّى إلى إخفاقات بالنظام الاقتصاديّ والاجتماعيّ الّذي أهدر الكفاءة الاقتصاديّة والعدالة الاجتماعيّة والتنمية الحقيقيّة في سوق لم يعرف استراتيجيّة للتنمية، وتحقيق نمو لاقتصاد ريعيّ لم يُثمر سوى تبديد الموارد وإثراء القلّة وإفقار غالبيّة المواطنين في لبنان .
إنّ أداء الاقتصاد اللبنانيّ التقليديّ المعتمد على الريع العقاريّ والماليّ بشكل حصريّ، قد أدَّى إلى تشوُّهات اقتصاديّة وماليّة ونقديّة، إضافةً إلى تركيز غير مسبوق للثروات لدى فئة قليلة من اللبنانيّين، ومزيد من التراجع في مستويات المعيشة لدى فئات واسعة من الشعب اللبنانيّ، ومزيد من التفاوت بين المناطق اللبنانيّة. وقد أدّى بدوره إلى اشتداد شراسة النظام الطائفيّ من حيث سيطرته على توزيع الريوع والمغانم عبر شبكات الفساد والإفساد، ما عزَّز مكانة الزعماء الطائفيّين ولجوء المواطنين إليهم لتأمين حاجاتهم من الرعاية الاجتماعيّة وفرص العمل سواء من الدولة وأجهزتها أم من المؤسّسات التربويّة والخيريّة المرتبطة بالبنية الطائفيّة، أو طلب الوساطة لإيجاد فرصة عمل سواء في القطاع الخاصّ أم القطاع العامّ.
هذه الطبقة السياسيّة اللبنانيّة المهترئة وجدت في الديمقراطيّة الشكليّة وسيلة لاكتساب نوع من الشرعيّة لبقائهم في السلطة، وعلى الرغم من بحثهم عن منافسين وهميّين في مسرحياتهم الانتخابيّة إلاّ إنّهم لا يقبلون المنافسة، ولو كذبًا، ويفضّلون التمديد لأنفسهم من دون وجه حقّ، مخالفين بذلك قواعد الديمقراطية واحترام تداول السلطة بالوسائل السلميّة.
إنّ العقد الاجتماعيّ السائد في لبنان أدّى إلى تدهور سياسيّ واجتماعيّ واقتصاديّ، الأمر الّذي حدى ببعض المرجعيّات إلى المطالبة علنيًّا بتطبيق عقد اجتماعيّ جديد، وفي مقدّمة المطالبين نيافة الكاردينال البطريرك مار بشاره بطرس الراعي في أثناء جولته في المكسيك وكندا والولايات المتّحدة الأميركيّة، مستندًا إلى ما يلمسه من خلل في تطبيق العقد الاجتماعيّ والسياسيّ القائم اليوم بين اللبنانيّين، وقد علَّق مسؤول كنسيّ على مطالبة البطريرك بأنّ: «العقد الّذي يدعو إليه البطريرك يكرِّس احترام الدولة المدنيّة الّتي تجدِّد الفصل بين الدين والدولة وتحترم كلّ الأديان، هو عقد يساوي بين جميع المواطنين على أساس الولاء للدولة وليس للطائفة أو الزعيم. عقد بين مواطنين أحرار متساوين يعملون على ازدهار وطنهم وتحييده عن الصراعات والتجاذبات ويضعونه على الخريطة العالميّة كمركز حوار وتلاقي ديانات وحضارات."
كما دعا " لقاء حريصا " الّذي عقدته شخصيّات مسيحيّة إلى: " ضرورة الاضطلاع بدور مسؤول وصياغة عقد اجتماعيّ جديد في لبنان". "إنّ صياغة عقد اجتماعيّ جديد لا يقصد به العودة إلى الثلاثيّة: السنيّة _ الشيعيّة _ المسيحيّة، الّتي من شأنها أن تضعف المسيحيّين في لبنان، وإنّما الرجوع إلى إعادة روح ميثاق 43 الّذي بُني على المناصفة الفعليّة والحقيقيّة وتأثيره على الأداء الدستوريّ" بحسب ما صرّح به أحد الأشخاص المشاركين.
ثالثًا: إنّ العقد الاجتماعيّ الجديد، الّذي نطمح إليه يدعو إلى إعادة التوازن بين مختلف فئات الشعب اللبنانيّ من جهة، ومن جهة ثانية، فهو يطول حياة كلّ فرد من أفراد الشعب لناحية معيشته وتقدّمه وتطوّره بحيث يتطلَّب منّا أن نُؤسّس:
1 _ علاقات جديدة، (علاقة مع الذات) نُحقِّق فيها طموحنا.
2 _ علاقة مع الآخرين، ومع محيطنا المجتمعيّ نتقبّل فيها الآخر ونحترم خصوصيّته.
3 _ علاقة مع مؤسّسات المجتمع المدنيّ، نكون مشاركين فاعلين نُعزِّز فيها دورنا السياسيّ والاجتماعيّ.
4 _ علاقة مع الدولة، من خلال القيام بإصلاح سياسيّ واسع المدى يصون الحقوق ويُنظِّم الموجبات، ووضع برنامج للتنمية المستدامة من القاعدة إلى القمّة، والتركيز على مبدأ المواطنة، والانتقال من السلطويّة الّتي ميَّزت أداة الدولة في الماضي إلى الديمقراطيّة وفتح الباب أمام تداول السلطة. يعني ذلك أنْ تُصبح الدولة أكثر استجابة للمواطنين وأكثر خضوعًا للمساءلة أمامهم، الأمر الذي يُمكِّنهم من أخذ زمام المبادرة في شؤون المجتمع بقدر أكبر، وكسر ذلك النمط السيّئ في الاتّكال على الدولة.
إذًا، وبصورة موجزة، نُكرِّر أنّ لبنان لا يقوم من كبوته إلاّ إذا اتّفقنا على قيام عقد اجتماعيّ جديد يرتكز على إعادة صياغة علاقة الدولة بالمواطن، وعلى نظام حماية الشيخوخة والتقاعد بين موظّفي القطاعين العامّ والخاصّ، الخدمات الاجتماعيّة (صحّة، تعليم ...) والرعاية الاجتماعيّة، وتوسيع نطاق تطبيق الديمقراطيّة واللّامركزيّة وخلق بيئة مؤاتية تُتيح مشاركة المواطن في المجال العام، بهدف تحقيق المساواة في الحقوق والفرص بين جميع المواطنين، وضمان مشاركة كلّ الأطراف المعنيّة في وضع السّياسات التنمويّة ومتابعة التزام كلّ طرف بمسؤوليّاته وواجباته تجاه باقي الأطراف.
وأخيرًا، تتلخّص مطالب اللبنانيّين بالحريّة والكرامة والحقوق والعدالة الاجتماعيّة، يعني أنهم يطالبون بعقد اجتماعيّ جديد مع سلطة سياسيّة جديدة تكون قادرة على تحقيق المطالب المذكورة، وفي تحقيقها بناء للبنان الجديد الّذي نأمل ببنيانه مع المخلصين من أفراد الشعب اللبنانيّ.
المحامي جوزف وانيس