فارس الشدياق
يملك، وضُيِّع منه أخوه بفعلِ التعصُّب. لكنّه صفَحَ وأكملَ ولم يُقَصِّر عن غايتِه بالرغم ممّا عاناه في عِراك أيّامِه، لأنّه كان يُؤمِن بأنّ تمامَ العقلِ هو نصيبُ مَن لا تزدَهيه أهواءُ النّفس. وَرُبَّ شاقةٍ تُحفِّز على التجاوزِ وتَشحذُ همّةَ الوصولِ إلى الأهداف، بدلاً من الاندفاعِ الى النّقمةِ فاتحةِ السقوط. والشدياقُ لم يحوِّل عافيتَه نحوَ السّخطِ المتتابَعِ الذي يَسوقُه إلى الجناية على حالِه، بل إلى التّمالكِ لتقليمِ أظفارِ الحزن. فالإرادةُ الفارياقيّةُ لم يكبّلها فالِجُ الاستكانة، بقدر ما تملَّكَها إحساسُ الأحلامِ الذي يُرَقّي المستحيلَ الى ملموس.
إنّ أدبَ الرحلةِ مع الفارياقِ لم يكن أدبًا جغرافيًّا بقدر ما هو مِعمارٌ مميّزٌ له سماتُه الخاصةُ ولغتُه المشوّقة. فالرحلةُ مكوّنٌ له توليداتٌ في الرؤيةِ وعلاماتٌ دالّةٌ بالمستوى الإدراكي، كما أنّ الفعلَ الرَّحليَّ له تعالُقاتٌ تخضعُ لمعيارَي المصداقيّةِ والمنطق. من هنا، كان لا بدّ من اختبارٍ تقويميٍّ للرحلةِ الفارياقيّة، وهل لعبت دورًا في تطويرِ خبرات الحضارةِ العربيّة، وأضافت أثرًا خصبًا جديرًا بتلبيةِ نزوعِ الإنسانِ إلى معرفةِ البعيدِ واكتشافِ من الآفاقِ المزيد؟ لم يرضَ الشغفُ الشدياقيُّ بمتعةِ التعرّفِ إلى الأحوال فحسب، بل حاولَ تأهيلَ تفاصيلَ أدبهِ في الرحلةِ إلى تزَعُّم هذا النّمطِ وإلى تأسيسِ ما يمكن أن نُسَمِّيَه " فقه الرحلة "، بما بلغته لديه من اتّساعِ ثغورِها ونشاطِ تقميشِها وتلبيتها أغراضَ المعرفة. ومهما قيل، فالرحلةُ في " الساق على السّاق " وفي " كشفِ المــُخبّا " لم تكن نزوحًا أو تأليفًا، ولم تكن أيضًا صورةً مغرِضةً يخدمُ بها جهةً، ولا دعايةً يروّجُ بها لأحدٍ، ولا ستارةً تخفي وراءَها محرَّمات. إنّها نقطةُ التقاءٍ حضاريٍّ بين الشرقيّ والثقافة الغربيّة، شكّلت قطعةً من حياة عاشَها جوّالٌ صدوق، سَبَر سِيَرًا وأملى مشاهداتٍ وعلّقَ على نوادرَ وما أخلّ بخبرَ. لقد مكث الفارياقُ في دروبِ الرحلةِ تحت شجرةِ الخَلاّب، لكنّه لم يَتُهْ، فجاءَ أدبُ الرحلةِ معه جامِعًا بموضوعيّة، المواقفَ والمناقشات والانطباعات، بتناوله منجزاتِ الحضارةِ الغربيّة بجوانبها السلبيّة والإيجابيّة على حدٍّ سواء، وبكيفيّة الإفادةِ من استقاماتِها والإعراضِ فيها عن الهفوات. وفي مقارنةٍ بسيطةٍ بين الشرق والغرب، أبدى الفارياقُ إعجابًا بالمساواةِ والحريّاتِ ودورِ المرأةِ في المجتمع الأجنبيّ، لكنّه سَخِرَ من العزلة والأنانية في " أرض الجحيم " ، بينما تتزعّم المودّة والأنس حال علاقات النّاس في مجتمع الشّرق.
رأى الفارياقُ أنّ الإنحرافَ السّلوكيَّ في قيادةِ المجتمعاتِ يؤدّي إلى إعاقةِ النّسَق الإجتماعيِّ عن القيامِ بوظائفهِ، ما يُنتِجُ خيبةَ ظنٍّ إحباطيةً على مستوى الجماعة. وهذه المعضلةُ تستوجبُ إحداثَ تغييرٍ في النموذجِ المطبَّق، من خلالِ حركةٍ إصلاحيّةٍ تسعى إلى تخفيفِ مساوئ هذا النموذج، ما ينعكُس في الحال تخفيفًا للآلام الاجتماعيّةِ الناجمةِ عن معوّقاتٍ عدّةٍ فيه. وقد ميّزَ الشدياقُ في مؤلّفاته بين الثورةِ والإصلاح، فالثورة تتوسّلُ القوةَ وصولًا إلى التغييرِ الجذريِّ المفاجئ، وقد تُسمّى في الكثير من الأحيان تمرّدًا أو عصيانًا، في حين يسعى الإصلاح وبهدوء، إلى إزالةِ الأخطاءِ وإلى تصحيح الأوضاعِ الفاسدة، في محاولةٍ لِرَتق ما هو قائم، وكأنّ الإصلاحَ يدعمُ أرضيّةَ البناءِ المتهاوي ليمنَعه من السقوط. إنّ ما طرحَه الشدياقُ في " الساق على السّاق " وفي " الجوائب " يصحُّ أن يكوّنَ طلائعَ فكر نهضويٍّ يؤسّسُ لتصوّرٍ واضعٍ لمعنى الإصلاحِ في كلِّ مُندرجاته. فهو يتّصف بالشموليّة والموضوعيّةِ والمرونةِ والواقعيّة، وينطلقُ من حتميّة ترسيخِ إرادةٍ واعيةٍ لأفرادِ المجتمعِ مُصمِّمةٍ على إحداثِ قفزةٍ نوعيّةٍ لمواجهةِ الخلل. أما الهدفُ من دعوةِ الشدياق، فهو التّحفيزُ على تنميةِ المشاركةِ العامةِ في عمرانِ المجتمع، وفي تطويره نحو صحوةِ عقلٍ متنوّرٍ يعملُ على ترسيخِ العدالةِ وتمتينِ معادلةِ الحقوقِ والحريّات. وفي مُقدِّمِها حقّ المرأةِ العربيّةِ التي دافعَ عنها الشدياق بجرأة، فاعتبرَه البعضُ أوّل نصيرٍ لها وقبلَ قاسم أمين.
أما مفهومُ الوطنِ في الفكر الشدياقيّ، فقد استمدَّ حيثيّاتِه من مبادئ الثورة الفرنسيّة، ومُناخِ أساليبِ الحكمِ المتقدّمةِ عند الأوروبيّين، من دون أن يغفلَ المناحيَ السلبيّة المتبدّيةَ خصوصًا في مشكلةِ الطبقيّةِ في دولِ أوروبا وعلى مستوياتٍ عدّة. فمن المستبعَدِ في هذه الحال، أن يكونَ مقبولًا ما استنتجَه بعض النقّاد من أنّ الشدياق دعا في مقالات "الجوائب" إلى إعادةِ إحياءِ حكم الخلافةِ السلفيّةِ الأصوليّة، مناهِضًا بشدّة الثورات العربيّة العُصيانيّة، وذلك خدمةً لفكرةِ تحويلِ إمبراطوريّةِ العثمانيّين إلى دولةٍ واحدةٍ جامعة. فقد رأى الشدياق أنّ رابطَ الدّين وحدَه لا يكفي، وأنّ فكرةَ الأمّةِ الإثنيّةِ ليست بابًا عاليًا، وبالتالي فالحلُّ يكمنُ تحديدًا في الفصلِ بين الدولةِ الدينيّةِ والدولة الزمنيّةِ، أو ما يُعرَف اليوم بفصلِ الدينِ عن الدولة. أمّا ثورتُه الجريئةُ في زمانِه، ففي دعوتِه إلى إخضاعِ السلطةِ الدينيّةِ للحكم المدَنيّ، وفي إلزاميّةِ الانتفاضةِ على حكم الفردِ المــُطلقِ الذي لا ينتجُ عنه سوى الظلمِ والاستبدادِ والتخلّف. وقد جرّت عليه مواقفُه الطليعيّةُ الكثيرَ من أسبابِ الخصوماتِ مع مرجعيّاتٍ سلطويّةٍ نافذة. لكنّ الوقائع السياسيّةَ المتعاقبةُ في عالمِ الشرقِ أثبتت صوابيّة الرؤيةِ الشدياقيّة، وأهميّةَ الوثيقةِ التي شكّلت خرقًا لما كان سائدًا ومفروضاً عندنا على المستويَين السياسيِّ والاجتماعيِّ طوال عقود.
إنّ بسطةَ الرّزقِ لم تَقهر عند الشدياق سلطانَ نفسِه للتّوقِ إلى وطنِه، وهو المتغرِّبُ عنه في شبهِ عُزلة، فقد كان المــــُبادِر الى تضمينِ إنتاجِه الأدبيِّ فكرةَ " الوطنيّةِ اللبنانيّةِ "، وإحياءِ التراثِ الشعبيِّ باختيارِ مناهلِه. ومهما يكن من أمر، فعَبَقُ البخّورِ وضَوعُ العطورِ وتحليقُ الجنيّاتِ وتجلّياتُ الجمالِ، لن يجدَها الشدياقُ وسواه إلّا في أجواءِ لبنانَ الفردوسيّة، حيثُ تُسمَعُ في خريرِ السّواقي تراتيلُ ملائكةِ وأناشيدُ أنبياء.
(د.جورج شبلي، مبدعون من لبنان، دار صادر بيروت، صفحة 31)