العدالة في لبنان الجديد
نظام سياسيّ قائم على استغلال الثروات وتقاسم المغانم وانتهاك حقوق الإنسان حتمًا سيؤدّي بالوطن إلى نتائج كارثيّة، ومن يُنعِم النظر في النظام اللبنانيّ لن يتفاجأ بمصير الدّولة والمستقبل طالما مَنْ يَحكم هو طبقة سياسيّة تُكرِّس التفاوت الاجتماعيّ وتُهمِل تحقيق العدالة، الشرط الأساسيّ لوجود الدولة على ما نصّ عليه الدستور اللبنانيّ.
تمثّل العدالة قيمة إنسانيّة جوهريّة للفكر والنظام السياسيّ، إنّها مفهوم أخلاقيّ قائم على الحقّ والقانون وتنظيم حياة البشر في ما بينهم وقاعدة اجتماعيّة أساسيّة في تطوُّر الحضارات وازدهارها، وهي وإن كان جوهرها واحدًا، فإنّها تختلف باختلاف الموضوعات الّتي تسعى العدالة إلى حمايتها، فتُطلق التسميات وتتجزّأ إلى العدالة القانونيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة:
أوّلًا: العدالة القانونيّة ترتكز على الإنصاف والمساواة واحترام حقوق الدفاع، ونزاهة القاضي بتطبيق الأحكام القانونيّة على القضيّة المعروضة أمامه، محترمًا حقوق المتقاضين والمساواة بينهم ومرتكزًا في إصدار أحكامه إلى وقائع النزاع فقط من دون الركون إلى أيّ تأثيرات خارجيّة أخرى كالسلطة والنفوذ والمال... فتتحقّق العدالة القانونيّة باحترام الحقوق والمساواة بين المتقاضين.
ثانيًا: العدالة السياسيّة تقوم على نزاهة العقد الاجتماعيّ بين الحكّام والمحكومين والّذي يَفرض خضوع الجميع لسلطان القانون من دون تمييز أو مفاضلة بين فرد وآخر، فيكون الحكّام بذلك مسؤولين أمام الشعب وراضخين للمحاسبة في حال إخلالهم أو مخالفتهم القوانين الناظمة للحياة السياسيّة والاجتماعيّة، أو إهمالهم للإرادة الشعبيّة الّتي أوْكلتهم تمثيلها والدفاع عن حقوقها ومصالحها.
ثالثًا: العدالة الاجتماعيّة هي نظام يهدف إلى إزالة الفوارق الاقتصاديّة الكبيرة بين طبقات المجتمع، هدفها الأساسيّ تحقيق المساواة بين المواطنين وضمان كرامتهم، وتوفير معاملة عادلة وحصّة تشاركيّة من خيرات المجتمع. فالتوزيع العادل للخيرات الاجتماعيّة يؤدّي إلى توزيع عادل للسلطة والمنزلة الاجتماعيّة، وبالعكس.
فالعدالة بمفاهيمها المتعدِّدة تهدف جميعها إلى تأمين المساواة بين البشر، وهي المعيار الأساس والشرط الواجب لقيام الدول بتنظيمها القانونيّ والاجتماعيّ والسياسيّ، الأمر الذي يفسّر إيراد معظم دساتير العالم الإلزامات بتوفير المساواة وتحقيق العدالة الاجتماعيّة للشعوب.
فقد جاء في الفقرة (ج) من مقدّمة الدستور اللبنانيّ أنّ "لبنان جمهوريّة ديمقراطيّة برلمانيّة، تقوم على احترام الحريّات العامّة، وفي طليعتها حريّة الرأي والمعتقد، وعلى العدالة الاجتماعيّة والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين من دون تمايز أو تفضيل"، ولكنْ هل ما نصّ عليه الدستور هو حبرٌ على ورق؟ أو مجرد مبادئ عامّة تُكتَب ولا تُنفَّذ؟ فأيننا نحن من العدالة الاجتماعيّة في لبنان؟ فلا مساواة في الحقوق، ولا توزيع عادل للخيرات والثروات والمنافع، ولا فُرَص عمل متساوية للجميع، ولا ضمان اجتماعيّ فاعل ولا نظام شيخوخة... لاءاتٌ لا تُعدُّ ولا تُحصى... تؤدّي جميعها إلى دمار الهيكل على رؤوس الجميع من دون استثناء... فلا مَنْ يَسأل ولا مَنْ يُجيب.
لذلـــك، وانطلاقًا من مسؤوليّاتنا بتفادي الكارثة الحاصلة في حال التمادي بالوضع الراهن، كان لِزامًا علينا الإشارة إلى الواجبات المفروضة على الطبقة السياسيّة والبدء بها قبل فوات الآوان:
واجبٌ على الطبقة السياسيّة العمل على تحقيق العدالة الاجتماعيّة، التي تُمكِّن من توفير الكرامة للإنسان وتَحفظ له قيمته وعزَّته، وتَحمي الفئات المهمَّشة والفقيرة وتعمل على تحسين أوضاعهم ورفع مستوى معيشتهم، وتضمن تحقيق مشاركة عادلة في الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة.
واجبٌ العمل على التوزيع المتوازن للموارد الماليّة على مختلف أنحاء البلاد من خلال الاستثمار في المشاريع العامّة والإنماء المتوازن للمناطق كافّة وفقًا لما نصّت عليه الفقرة (ز) من مقدّمة الدستور "الإنماء المتوازن للمناطق، ثقافيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا، ركن أساس من أركان وَحدة الدولة واستقرار النظام".
واجبٌ العمل على توفير الفرص أمام جميع المواطنين وسدّ الحاجات المعيشيّة والطبيّة والغذائيّة، والاستفادة بشكل متساوٍ من الخدمات الصحّيّة والتعليميّة والاجتماعيّة، واستصدار قوانين تُسهِّل للمواطنين الاستحصال على قروض سكنيّة مُيَسَّرة للراغبين بالزواج، تأمينًا للاستقرار العائليّ، وتوفير مساعدات ماليّة لتطوير المهن الحرّة.
واجبٌ العمل دائمًا على صَوْن واحترام الحريّات العامّة للجميع من دون تمييز بينهم، فهذه الحريّات تسمح للمواطنين التعبير عن هواجسهم وإبداء آرائهم من دون خوف من الملاحقات من أيّ نوع كانت، فقد جاء في المادّة 7 من الدستور أنّ "كلّ اللبنانيّين سواء لدى القانون، وهم يتمتّعون بالسواء بالحقوق المدنيّة والسياسيّة ويتحمّلون الفرائض والموجبات العامّة دونما فرق بينهم".
واجبٌ العمل على ضمان التمثيل المتوازن لجميع شرائح المجتمع في الإدارة العامّة. ويتحقّق هذا بالحيلولة دون استئثار شريحة محدَّدة بالوظائف الكبرى، لا سيّما تلك الّتي تُعطي أصحابها امتيازات سياسيّة أو اجتماعيّة. فمدخل الإصلاح والتغيير يُحتِّم على المسؤولين توزيع المناصب الإداريّة على مستحقّيها وفقًا لتحصيلهم العلميّ وكفاءتهم لتطوير الإدارة وتحسينها، عملًا بالمبدأ القائل "الشخص المناسب في المكان المناسب".
فتحقيق العدالة الاجتماعيّة مسارٌ يَتِمُّ عبره تكديس المكتسبات، من طريق سَنّ سياسة ذات بُعْد اجتماعيّ تَهدف إلى ردم الهوَّة بين طبقات المجتمع وفئاته، ومحاربة أشكال الاستبعاد الاجتماعيّ جميعها، وقد آن الآوان لتحقيق العدالة في لبنان، وها هي الانتخابات النيابيّة المقبلة فرصة جادّة للمطالبة ببرامج انتخابيّة تُؤمِّن العدالة الاجتماعيّة لأفراد الشعب اللبنانيّ جميعهم، وإنّنا نلتزم نصًّا وروحًا بالعمل الجاد لتحقيق العدالة بمختلف مفاهيمها...، آملين اكتساب ثقة الناخبين لتطبيق ما التزمنا به... والله وليُّ التوفيق...
المحامي جوزف وانيس