ابن الحدث البارّ، أَحَد الكُبَّار - احمد فارس الشدياق
ابن الحدث البارّ، أَحَد الكُبَّار
هو فارس بن يوسف بن منصور الشدياق، من طائقة الموارنة. ولقب الشدياق من ألقاب الشرف التي تطلق على كبار القوم من المتعلّمين والكتّاب الذين يرتفعون عن طبقة الأمّيّين. هذا، وتضاربت الآراء في تاريخ مولده فبولس مسعد يقول إنّ الشدياق أبصر النور سنة 1805 في قرية صغيرة من قرى لبنان تسمّى (عشقوت) سنة 1805 . لكنّ الدكتور عماد الصلح يرجّح سنة 1801.
أمّا أسرته فقد انتقلت إلى قرية الحدت القريبة من بيروت سنة 1809، ثمّ دخل مدرسة (عين ورقة) الّتي تعلم فيها بطرس البستاني، ورشيد الدحداح، فكان ثالث ثلاثة من روّاد النهضة الأدبيّة في القرن التاسع عشر الّذين تلقّوا العلم في المدرسة المارونيّة الآنفة الذكر والّتي كانت تعلّم العربيّة والسريانيّة وعلوم البلاغة والمنطق واللاهوت.
أضف إلى ذلك أنّ فارس الشدياق اشتغل بنسخ الكتب لنفسه أو لغيره، فطارت شهرته في هذا المجال حتّى استدعاه الأمير حيدر الشهابي أحد الأمراء الشهابيّين ومؤلّف التاريخ المشهور، وكلّفه نسخ تاريخه ثمّ تقلّبت به الأعمال بين عمل وفراغ، إلى أن حدثت لأخيه وأستاذه أسعد الشدياق حادثة كانت الشرارة الأولى في تغيير مجرى حياته، إذ تحوّل هذا الأخير من مذهبه المارونيّ إلى المذهب الإنجيليّ، الأمر الّذي أثار سخط البطريرك المارونيّ عليه، فنفاه إلى (دير قنّوبين) سجينًا معذّبًا حتى قضى نحبه، وهو في ريعان شبابه. وكان لهذا الحادث أثره في نفس فارس، فكره الحياة في لبنان وما بلغه هذا البلد من التعصّب الطائفيّ. فشدّ الرّحال الى مصر سنة 1830، تلبيةً لدعوة المرسلين الأمريكان، بغية تعليمهم العربيّة، كأنّهم بذلك أرادوا أنْ يطيّبوا خاطره نظرًا إلى ما لقيه أخوه أسعد بسبب اعتناقه مذهبهم. وأسعد الشدياق هذا شقيق فارس يكبره بسبع سنوات، وهو من تلاميذ مدرسة "عين ورقة" أيضًا، وكان يُجيد السريانيّة والعربيّة واللاتينيّة والإيطاليّة والمنطق واللاهوت والخطابة والطبيعيّات. كما أنّه شارك في تكوين فارس الشدياق اللغويّ والنحويّ. زدْ على ذلك أنّ إقامة فارس الشدياق في مِصر أتاحت له أن يتلقى اللغة والأدب والنحو والبلاغة والصرف والشعر على بعض علمائها، وبخاصّةً الشاعر الأديب الشيخ محمّد شهاب الدين الذي كان مقرّبًا من بيت الخديويّ محمّد علي باشا، الأمر الّذي ساعده على أنْ يعيَّن محرّرًا في جريدة (الوقائع المصرية)، ومشرفًا على تصحيح لغتها ومشاركًا في تحرير القسم العربيّ، بعبارته المرسلة الرصينة التي كانت جديدة على أهل ذلك الزمان. وفي مِصر، زادت حصيلة معارفه اللغويّة والأدبيّة والشعريّة، فقرأ "صحاح" الجوهري، وديوان أبي الطيّب المتنبّي وغيرهما من الكتب الفريدة والثمينة. ونلفت النظر إلى أنّه حين وفد إلى مصر كان يبلغ عشرينًا من العمر، فاستطاع في تسع سنوات أقامها فيها أن يكَوِّن نفسه في اللغة والأدب، تكوينًا سليمًا على أساس متين. في سنة 1834، دعاه الأمريكان الى مالطة لغرضين أوّلهما: التعليم في مدارسهم، وثانيهما: تصحيح الكتب العربيّة التي كانت تصدر عن مطبعتهم. وفي مالطة، أخذت ميوله وعواطفه تتّجه نحو المذهب الإنجيليّ الّذي اعتنقه شقيقه من قبل في لبنان ... وعلى ما يبدو، كان هذا التحوّل انتقامًا لأخيه ممّا حدث معه على يد الموارنة. وظلّ الشدياق في مالطة أربعة عشر عامًا حتّى سنة 1848. ومن أهمّ ما ألّفه فيها من الكتب كتابه (الوساطة في معرفة مالطة)، وهو أوّل ما كتبه في الرحلات. قامت للشدياق شهرة أدبيّة لغويّة، وبخاصّةٍ في أوساط المرسلين؛ ففي سنة 1848 دعته جمعيّة (ترجمة الأسفار المقدّسة) الى إنجلترا ليُسهم في ترجمة تلك الأسفار أو على الأصحّ ضبطها وتنقيحها، بإشراف المستشرق الدكتور (لي)، فلبّى الدعوة وبدأ العمل، وأتاحت له هذه المهمّة أن يطيل التجوال في إنجلترا وفرنسا، وأن يتعرّف إلى ريفهما وحضرهما، وأن يدرس عن كثب أحوالهما وأخلاق أهلهما، وأن يتعلّم الإنجليزيّة والفرنسيّة ويقرأ أعلامهما، وأن يقرأ في صحفهما ومجلاتهما العلميّة والأدبيّة. هذا الأمر أعانه على أن يؤلّف كتابه الثاني في أدب الرحلات، وهو (كشف المخبّأ، عن فنون أوروبّا)، كما ألّف كتابه الرائع (الساق على الساق، فيما هو الفارياق). وفي سنة 1853، كانت قصيدته المدحيّة في السلطان العثمانيّ عبد المجيد والّتي نظمها في لندن وبعثها إلى هذا الأخير لمناسبة الحرب بين روسيا وتركيّا، وهي قصيدة تربو على مائة وثلاثين بيتًا.
وكان من أثر تلك القصيدة المدحيّة أن وصلَتْ إلى الشدياق دعوتان، استجابةً للمدائح الشعريّة، الأولى لزيارة الآستانة بدعوة من السلطان عبد المجيد، والثانية من أحمد باي تونس، الذي دعاه لزيارته والإقامة معه في تونس لقاء القصيدة التي مدحه بها الشدياق وبعث بها إليه من باريس، تقديرًا لمبرّاته وخيراته التي وزّعها على فقراء مرسيليا وباريس في أثناء زيارته لهما. هذا، ولم يتوانَ الشدياق عن تلبية دعوة باي تونس الذي بعث إليه بسفينة خاصة تقلّه إليه، وكان ذلك عام 1857. وفي تونس البلد المضيف، اعتنق الشدياق الإسلام وتسمّى باسم أحمد فارس الشدياق، بل أضيف إلى اسمه لقب (الشيخ) الّذي اشتهر به في العالم الإسلاميّ، وتكنّى بأبي العبّاس، وكلّ ذلك مردّه إلى تبحّره في علوم الأديان، ودراسته اللاهوت المسيحيّ، واطّلاعه على عقائد الاسلام، ومعايشته لأحوال الأمم الإسلاميّة والمسيحيّة في الشرق والغرب على حدّ سواء. وعلى الرغم من قرب الشدياق من الباي وتولّيه أعلى المناصب في تونس، لم يُطل مقامه فيها. فلمّا كرّرت الآستانة دعوته إليها، غادر تونس ملبّيًا دعوة السلطان، حيث أُلحق بديوان الترجمة وتولّى تصحيح بعض المطبوعات. وفي سنة 1860، أنشأ الشدياق صحيفةً أسماها (الجوائب)، وهي صحيفة سياسيّة أسبوعيّة تصدر من الآستانة وتطبع في المطبعة السلطانيّة. وفي 1870، أنشأ لها الشدياق مطبعة خاصّة بها تسمّى مطبعة "الجوائب"، فنالت صحيفة الجوائب شهرةً في العالم الإسلاميّ لم تنلها صحيفة سواها منذ إنشاء الصّحافة العربيّة، إذ أقبل السلاطين والملوك ورؤساء الحكومات العربيّة الإسلاميّة عليها، كما كان المفكّرون يتهافتون على قراءتها، كما أنّها بلغت من حسن التبويب والإتقان وبراعة التحرير وجودة الأساليب حدًّا جعلها أكبر صحف ذلك العهد وأوسعها انتشارًا، وكانت مطبعتها الخاصّة المسمّاة مطبعة "الجوائب" من أشهر المطابع في الآستانة والمشرق العربيّ. ناهيك بأنّها أمدّت المكتبة العربيّة بسيل من المطبوعات الّتي شاركت في إحياء التراث العربيّ، واشتهرت بين عشّاق الكتب بجمال حروفها، وحسن إخراجها، ودقّة تصحيحها، حتّى كادت مطبوعاتها تداني المطبعة الأميريّة ببولاق من هذا القبيل. أمّا مكانة "الجوائب" بين الصحافة العربيّة والعالميّة فيكفي للتدليل عليها أنّ صحافة الغرب كانت تنقل عنها وتستشهد بها في معرض الحديث عن سياسة الشرق، كما كانت تلقّب صاحبها فارس الشدياق (بالسياسيّ الشهير)، (والصحافيّ الطائر الصّيت).والحقّ يقال إنّ صلته الوثيقة بالسلطان العثماني وبرؤساء البلاد العربيّة والإسلاميّة جعلت صحيفة الجوائب مركزًا هامًّا لسياسة الشرق، حقبةً من الزمان. ولم تكتف الجوائب بمركزها السياسيّ وبمنبرها الشرقيّ الذي كانت تُسمع منه أجهر الأصوات، بل أضافت إلى ذلك ميدانها الأدبيّ ومعرضها الحامي في الجدل والمناظرات. وكثيرًا ما قامت فيها المعارك الأدبيّة بين رجال من أمثال: الشيخ إبراهيم اليازجيّ، والشيخ سعيد الشرتوني، والدكتور لويس الصابونجي، والكونت رشيد الدحداح، والشيخ إبراهيم الأحدب، وبطرس البستاني وغيرهم، وكان المرحوم عبد الله فكري الأديب والشاعر المصريّ ينشر فيها بعض مقالاته وطرائفه. في سنة 1886، وفد الشدياق على مصر، زائرًا بعد أن تعطّلت (جوائبه)، من ثَمَّ عاد إلى الآستانة، فكانت تلك العودة آخر أسفاره في الدنيا، إذْ وافته المنيّة يوم 20 أيلول سنة 1887، فأوصت الإدارة السنية أن يُدفن في تربة السلطان محمود، إلاّ أنّ ولده سليم الذي كان برفقة والده في إسطنبول التمس من السلطان أن يكون دفن جسمان والده في جبل لبنان، عملاً بوصيّة فارس الشدياق نفسه فأذن له القيام بذلك. ويظهر أنّ التنقّل أو الرحلات الّتي كانت ملازمة الشدياق في حياته ظلّت تصاحب جسده بعد مماته، فقد حنّط جسمه ووضع في تابوت من الرصاص مغلّف بخشب الجوز الثمين، ثم أودع في القصر الذي مات فيه بالمصيف، ثُمّ نقل إلى قصر ولده سليم (ابنه البكر والسفير العثماني لدى بريطانيا لمدة 21 عامًا) ومن ثَمَّ نقل جثمانه على متن باخرة نمساويّة إلى لبنان. ولمّا وصل النّعش إلى بيروت سار حملة الرايات خلفه، ومشايخ الطرائق أمامه، وهم يُهلّلون ويكبّرون، وأبرزهم مفتي بيروت الشيخ عبد الباسط الفاخوري ولفيف من العلماء ورجال الشركة وابنه سليم. ولمّا وصلوا إلى الجامع العمريّ الكبير وتمّت الصلاة عليه، قام بعض أصدقائه بإلقاء الخطب والقصائد في رثائه. ثمّ وضع النّعش بعد ذلك على عجلة الأموات ليصار إلى دفنه في قرية الحدت. لقد ذكر الكاتب والمؤرّخ مارون عبّود في نهاية كتابه " صقر قريش" أنّ جريدة "صوت الأحرار" نشرت بتاريخ 8 آذار 1983 الخبر الآتي: " منذ خمسين سنة جيء بجثمان الفقيد العلاّمة أحمد فارس الشدياق من استانبول إلى مسقط رأسه في قرية الحدت بلبنان، حيث دفن في مقبرة العائلة سنة 1888، ثمّ نقل إلى مقبرة خاصّة في الحازميّة بجوار مدافن المتصرّفين، وشاع عند العوام أن الشدياق قدّيس، لأنّ جسده لم يبلَ بعد مضيّ خمسين سنة على وفاته".
وقصارى القول، كان فارس الشدياق من أركان النهضة الأدبيّة العلميّة في غرّة القرن التاسع عشر، وترك تراثًا ثمينًا يُعوَّل عليه في الدراسات اللغويّة والأدبيّة، وهو يضمّ المؤلّفات المطبوعة والمخطوطة.:
أوّلاً – المؤلّفات المطبوعة:
- (سرّ الليال في القلب والإبدال)، كتاب في اللغة.
- كتاب (الجاسوس على القاموس)، وهو كتاب نقد في كتاب (القاموس المحيط) للفيروز أبادي.
- كتاب (الساق على الساق، فيما هو الفارياق)، في اللغة والأدب والتحليل ووصف الخطرات والنوازع، والسيرة الذاتيّة وأدب الرحلات، كلّ ذلك وغيره على أسلوب لا عهد للعربيّة به.
- كتاب (الواسطة في معرفة أحوال مالطة)، وهو وصف رحلته إلى جزيرة مالطة.
- كتاب (كشف المخبّا، عن فنون أوروبّا).
- كتاب (اللفيف في كلّ معنى ظريف)، وهو من كتب المختارات في الأدب والحكمة والأمثال والحكايات التهذيبيّة والنكات اللغويّة والمترادفات.
- كتاب (غنية الطالب، ومنية الراغب)، كتاب مدرسيّ في علوم الصّرف والنّحو.
- قصيدة في مدح أحمد باشا باي تونس.
- المقالة البخشيشيّة، أو السلطان بخشيش.
- شرح طبائع الحيوان، وهو مترجم عن الإنجليزيّة.
- كنز اللغات، وهو معجم في اللغات الثلاث: الفارسيّة والتركيّة والعربيّة.
- خبريّة أسعد الشدياق، وهو الكتاب الّذي روى فيه فارس الشدياق قصّة تحوّل أخيه عن المذهب المارونيّ إلى المذهب البروتستانتيّ.
- كتاب (الباكورة الشهيّة في نحو اللغة الإنكليزيّة).
- كتاب (المحاورة الانسيّة، في اللغتين الإنكليزيّة والعربيّة).
- كتاب (سند الراوي، في الصّرف الفرنساويّ).
ثانيًا – المؤلّفات المخطوطة:
- (منتهى العجب، في خصائص لغة العرب).
- (المرآة في عكس التورات)، أفرغه في قالب بديع لم ينسج أحد على منواله وشرع في إنشائه على أثر ترجمته للتورات في لندن.
- النفائس في إنشاء أحمد فارس.
- له ديوان شعر من نظمه يشتمل على ثلاث مائة وخمسٍ وستّين قصيدةً، أي ما يعادل اثنين وعشرين ألف بيتٍ من الشعر.
المراجع:
- مركز الشرق العربيّ للدراسات الحضاريّة والاستراتيجيّة (لندن).
- محمّد عبد الغني حسن (أحمد فارس الشدياق، الدار المصريّة للتأليف والترجمة)
_ كتاب تيار النهضة العربية، للشيخ شارل كميل الشدياق، طبعة آذار 2010.