من اللّادولة إلى النسبيّة والدولة المدنيّة... كيف؟
من اللّادولة إلى النسبيّة والدولة المدنيّة... كيف؟
الدكتور عصام نعمان *
جريدة الأخبار العدد 2919 تاريخ 24/6/2016
بعض جوانب الماضي غالباً ما يمتدّ في الحاضر. كذلك الحاضر يمتدّ في المستقبل. الواقع إنّ كثيراً من ماضي لبنان، على صعيد الموروث السياسيّ الطائفيّ، بقي ممتدّاً في حاضره، فهل يمتدّ كثيره أو قليله إلى مستقبله؟ إنّه السؤال – الهاجس. سؤال اليوم والغد.
في محاولة الإجابة عن هذا السؤال، يجد المواطن المسؤول نفسه محكوماً بأن يضع الحاضر في حسابه. والحاضر ينطق بحقيقة جارحة هي انّ لبنان ما زال في حال اللادولة، أو في حال «الدولة الفاشلة»، على حد تعبير مجلة «فورن بوليسي" Foreign Policy " الأميركيّة، إذ يحتلّ المرتبة 18 من أصل 60 «دولة» في حال مماثلة. إنّها ، في رأيي، حال «الفوضى المنّظمة» التي يُحسن أهل الشبكة السياسيّة القابضة نشرها وضبطها وفق وتيرة تحدّدها في الغالب مصالحهم الفاجرة.
النظام، إذاً، راتع في حال «اللادولة». استمراره في هذه الحال، وسط الأزمات والتحدّيات الإقليميّة والدوليّة المتفاقمة، يُشكّل خطراً ماثلاً على الكيان وقد يتسبّب، عاجلاً أو آجلاً، في انهياره.
تفادي الانهيار يتطلّب معالجة مركّزة وموضوعيّة. هذه بدورها تتطلّب وقتاً. إنّها مسار وليست مجرّد قرار. غير انّ مباشرتها باتت حاجة استراتيجيّة لا تحتمل التأخير.
إنّ الدولة المدنيّة الديمقراطيّة هي خيارٌ ونهجٌ نابعان من تشخيص لحال لبنان المرَضيّة من حيث انّ اللبنانيّين يتصرّفون، حيال الحاجات والخيارات والتحديات، السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، كأعضاء في كيانات طائفيّة أو مذهبيّة حيناً أو كأبناء شعب واحد حيناً آخر. حيال الحاجات والخيارات والتحديات الاقتصاديّة والاجتماعيّة يتصّرف اللبنانيّون، غالباً، كأبناء شعب واحد، إذ ليس ثمّة اقتصاد مسلم وآخر مسيحيّ، مهن وضمانات صحيّة واجتماعيّة مسلمة وأخرى مسيحيّة، ضرائب ورسوم مسلمة وأخرى مسيحيّة. أما حيال الحاجات والخيارات والتحديات السياسيّة والاستراتيجيّة فيتصرّف اللبنانيّون، غالباً، كأعضاء في كيانات طائفيّة أو مذهبيّة. يتجلّى ذلك أكثر ما يكون حيال مواضيع الحريّات العامّة؛ تعديل الدستور؛ الحرب والسلم؛ المعاهدات والاتّفاقات الدوليّة؛ الموازنة العامّة للدولة؛ الخطط الإنمائيّة الشاملة والطويلة المدى؛ التنظيم أو التقسيم الإداريّ للدولة؛ قانون الانتخابات وحلّ المجلس النيابيّ؛ قانون الجنسيّة؛ وقوانين الأحوال الشخصيّة.
نرى، والحال هذه، أن يجري تخصيص مجلس الشيوخ المنصوص عليه في المادة 22 من الدستور بصلاحيّة النظر في القضايا والمواضيع الأساسيّة والاستراتيجيّة، على ان تبقى لمجلس النوّاب، المفترض ان يجري انتخاب أعضائه على أساس وطنيّ لاطائفيّ، صلاحيّة شاملة بكلّ القضايا والمشاريع، بما فيها تلك التي ينظر فيها مجلس الشيوخ لكونه صاحب ولاية شاملة للنظر والبتّ بكلّ القضايا والمواضيع بحكم وظيفته التشريعيّة.
إنّ عدم اعتماد خيار الدولة المدنيّة الديمقراطيّة، والتلكّؤ في اعتماد النهج المؤدّي إلى بنائها وضمان حسن أدائها سيفضيان إلى واحدٍ من احتمالين، وربّما إلى كليهما:
الاحتمال الأوّل، ان يحدث المزيد من الشيء نفسه، أي ان يبقى لبنان في حال اللادولة، وبالتالي ساحة متاحة للاستعمال من جانب أطراف محلّيّة وإقليميّة ودوليّة، لتحقيق أغراض أو تصفية حسابات شخصيّة أو سياسيّة أو استراتيجيّة.
الاحتمال الثاني، ان يحاول أحد الكيانات الطائفيّة أو المذهبيّة او السياسيّة، منفرداً أو بالاشتراك مع كيانٍ أو أكثر، بقواه الذاتيّة أو بالتحالف مع قوة إقليميّة او دوليّة، السيطرة على النظام وسلطاته ومقدراته وتوجيهه وجهةً معيّنة تخدم أهدافه ومصالحه.
تسترعي الانتباه والاهتمام، في هذا المجال، نشوء ظاهرة بالغة الأهميّة في لبنان وبلدان المشرق العربيّ، كما في سائر بلدان غرب آسيا. انّها ظاهرة نشوء كيانات سياسيّة غير حكوميّة، كتنظيمات المقاومة مثلاً، تمتلك قدرات اقتصاديّة وفنيّة وعسكريّة وازنة، كما تتمتّع بدعم أهليّ مؤثر وعابر لمختلف الفئات التي يتكوّن منها الشعب أو الاجتماع السياسيّ في بلد المنشأ أو مسرح العمليّات، أو نابع من أحد مكوّنات الشعب أو الاجتماع السياسيّ كالطائفة أو المذهب أو الأثنيّة ذات الكثافة العدديّة.
تزداد فعاليّة هذه الكيانات غير الحكوميّة إذا ما حظيت بدعم قوة إقليميّة أو دوليّة مقتدرة إذ يصبح بإمكانها خوض معارك بل حروب على نطاق واسع ولمدّة طويلة. هذه المواصفات تنطبق على تنظيمات ناشطة حالياً كالمقاومة اللبنانيّة (حزب الله) والمقاومة الفلسطينيّة («حماس» والجهاد الإسلاميّ) والمقاومة العراقيّة (التنظيمات المنضوية في اطار "الحشد الشعبي").
إلى حزب الله، فإنّ كيانات أخرى في لبنان ذات تكوين طائفيّ غالب، كـ«القوات اللبنانيّة» و«تيّار المستقبل»، لديها القدرات والإمكانات والكادرات اللازمة لتوليد فعاليّة ميدانيّة مؤثرة تتيح لها ممارسة ضغوط على النظام قد ترتقي إلى حدّ تطويعه والسيطرة عليه. لكن في غمرة الصراع قد تنتدب قوى المقاومة اللبنانيّة وسائر القوى الوطنيّة الحيّة نفسها للاضطلاع بدور إصلاحيّ إجرائيّ مباشر يتوسّل العصيان المدني في حال واصل أركان الشبكة السياسيّة القابضة والكيانات الفئويّة التي تواليها اعتماد تقليد الاصطراع والاقتتال لتمييع المسألة الإصلاحيّة والتهرّب من واجب الدفاع عن لبنان ضد خطر العدوان الصهيونيّ وتهديد الإرهاب التكفيريّ.
مع كيانات غير حكوميّة، قويّة وفاعلة كتلك المنوّه بها، يتحوّل لبنان ساحةً لحروب أهليّة، محلّيّة وذات بعد إقليميّ، مديدة وكارثيّة.
هذا الاحتمال يجب ألاّ يتحول أبداً إلى خيار. واجب القوى الوطنيّة الحيّة بل قدرها ان ترتفع إلى مستوى الأخطار المحدقة بالكيان، بما هو مشروع دولة ووطن، لمباشرة نضال موصول في سبيل بناء الخيار الأوّل والأمثل: الدولة المدنيّة الديمقراطيّة.
المخرج من الأزمة
لبنان اليوم في حال فراغ «رسميّ»، بمعنى سلطويّ:
في 24 ايار 2014 شغرت سدّة رئاسة الجمهوريّة بانتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان، ولم يتمكّن مجلس النوّاب من انتخاب رئيس بديل رغم دعوته 40 مرّة لعقد جلسة مخصّصة لهذه الغاية.
منذ 3 تشرين الثاني 2014 ولغاية أواخر تشرين الثاني 2015 لم ينعقد مجلس النوّاب، لا في جلسة عامّة ولا في جلسة استثنائيّة، لممارسة مهامه التشريعيّة.
من 9 تموز ولغاية 25 آب 2015، ثمّ من 28 آب ولغاية منتصف تشرين الثاني 2015 لم ينعقد مجلس الوزراء، بسبب قرار بعض الكتل البرلمانيّة مقاطعة وزرائها لاجتماعاته.
شلل السلطتين التنفيذيّة والتشريعيّة انعكس على الإدارات والمؤسّسات والمرافق العامّة الخدميّة فتلاشت فعاليّتها أو كادت.
اقترن شلل الدولة بتفاقم أزمات مزمنة: الكهرباء والماء والنفايات والانترنت، ناهيك عن تدهور الوضع الاقتصاديّ – الاجتماعيّ وتصاعد الدين العام إلى ما يربو على 80 مليار دولار أميركيّ.
كلّ هذه الازمات والتحدّيات لم تحمل أهل النظام السياسيّ على إعادة النظر بسياساتهم أو بمعايير أدائهم الأمر الذي أدّى الى اندلاع حركات شعبيّة معارضة كان أبرزها ذلك المتعلّق بالنفايات.
يقودنا الاعتراف بهذا الواقع الفاسد والمعقّد إلى استنتاج عاجل وماثل هو ضرورة استنفار مجموعات الحراك الشعبيّ كما القوى السياسيّة الإصلاحيّة المعارضة لأهل السلطة بغية إطلاق حملة جماهيريّة واسعة تطرح مطلب إنهاء عهد سلطة العجز التي يمدّد أهلها لأنفسهم فيها، والضغط عليهم بكلّ الوسائل المتاحة والاستثنائيّة لحمل ممثّليهم في مجلس النواب على إقرار قانون للانتخابات على اساس التمثيل النسبيّ في دائرة وطنيّة واحدة على مستوى البلاد كلّها، واجراء الانتخابات العامّة، تالياً، بالسرعة الممكنة كي يصار بنتيجتها الى انتخاب رئيسٍ للجمهوريّة، وتأليف حكومة وطنيّة جامعة تتولّى، كأولوليّة أولى، وضع التشريعات الضروريّة لتنفيذ أحكام الدستور، ولا سيّما المواد 22 و27 و95 منه، ليصار بعد نفاذها إلى انتخاب مجلس نوّاب على أساس وطنيّ لا طائفيّ ومجلس للشيوخ لتمثيل الطوائف ومباشرة إلغاء الطائفيّة السياسيّة وفق خطّة مرحليّة.
لذلك، لا غلو في دعوة قادة القوى الشعبيّة والسياسيّة الناهضة بالحملة الجماهيريّة المتعاظمة إلى التخطيط مسبقاً لمواجهة احتمال امتناع أهل السلطة ومجلس النوّاب عن استجابة المطالب الإصلاحيّة المستحقّة والمستعجلَة. المواجهة تكون، اذاً، باللجوء إلى تدابير استثنائيّة تمليها ظروف إستثنائيّة تستدعي المباشرة، بالسرعة الممكنة، في بناء «المؤتمر الوطنيّ للإصلاح الديمقراطيّ» ليتولّى وضع نظام للانتخابات على الأسس المنوّه بها آنفاً وبإجراء الانتخابات وفق أحكامه باستقلال عن أجهزة السلطة الرسميّة المعطّلة أصلاً أو المشلولة. والأمر الأكيد أنّ أهل سلطة العجز عاجزون قطعاً عن تعطيل اجرائها، لا سيّما انّ القوى الخارجيّة عاجزة عن التدخّل لانشغالها بأزمات إقليميّة افتعلتها أو توّرطت فيها، والجيش لن يتدخّل لانشغاله بمهامه الدفاعيّة، ولتفادي انشقاقه، ولحرصه على وحدته وفعاليّته. مع العلم انّ الانتخابات المرتجاة هي أقرب ما تكون إلى استفتاء أو استطلاع عام يجريه "المؤتمر الوطنيّ للإصلاح الديمقراطيّ" بالتعاون مع منظّمات المجتمع المدنيّ، وليس له أي طابع استفزازيّ ولا معاداة لأيّ جهة سياسيّة. وفي هذا السياق، يمكن تشريع التغيير الحاصل، عاجلاً او آجلاً، بأن يُعتبر المرشّحون الفائزون في "انتخابات المجتمع المدني" برلماناً انتقاليّاً لمباشرة العمليّة الإصلاحيّة الجذريّة باتّجاه بناء الدولة المدنيّة الديمقراطيّة.
نعم، يجب المبادرة إلى ممارسة هذا التمرين الساطع في الديمقراطيّة المباشرة ليكون إنجازاً نموذجيّاً لشعب لبنان ولكلّ شعبٍ يتوق إلى تقرير مصيره وأولويّات حياته بنفسه.
* كاتب سياسي، نائب ووزير سابق.